يثير عجبي وإعجابي، منذ أن كنت واحداً من «جماعة العشرة» في دمشق (إثر هزيمة 1967م)، وهي آخر جماعة غير رسمية ومستقلّة عن وزارة الثقافة ومتعددة الأطياف والتوجهات الأيديولوجية، وبصفتي بذلت عمري الفني والأكاديمي لتوثيق الفن العربي (تاريخ لم يكتب بعد)، أنني لم أعثر في صالات الأقطار النهضوية: الثلاثي مصر ولبنان والعراق، من يبزّ تفرد الخصائص التعبيرية السورية بتنوع مناحيها الإقليمية، وتنوع تياراتها المتباعدة جغرافياً وفكرياً.
أما إعجابي، فقد تضاعف مع ظهور جيل الحرب الأخير (ما بعد ولادات الثمانين) سواء في حضن كوابيس الداخل، أم في أتون غربة شتات الخارج. سميتهم بـ «الرواد الجدد» ابتداء من ياسر الصافي المقيم مع النزوح من جرمانا إلى برلين (عرين التعبيري السوري الثاني بعد فاتح المدرس وهو مروان قصاب باشي). تتحرك هذه الخصائص بين هذين المعلمين وتأثيراتهما على الأجيال التعبيرية المتعاقبة، وذلك بعد أن أسس منطلقاتها المعلم الأكبر محمود حماد. لا بد للباحث من أن ينبش تاريخه التعبيري التراجيدي المتفوق على متانة رهافته الحداثية اللونية والفراغية الحروفية التي ابتلعت مختبره الرائد في أواخر حياته (لا يقل ناظم الجعفري تأثيراً عنه). إن أكبر خطأ ارتكبته «جماعة العشرة» عدم دعوة حماد وفاتح المدرس للانضمام إلى معارضها، هو الإحساس بالخطيئة الذي دفعهم لدعوة عبد الله مراد (رهافة غنائية استثنائية) والنحات منذر كم نقش (نحات تكعيبي أصيل لم يكتب لتجربته أن تكتمل).
اليوم غادرنا إلى عالم الأبدية أغلب أعمدة العشرة + فاتح المدرس + مروان قصاب باشي + منذر كم نقش. وبقي جماعة البرزخ عبد الله مراد الذين عرفوا خطأً بـ «جماعة حمص» وعلى رأسهم مع مراد كرم معتوق (منفي في كندا لا نعرف من أخبار موهبته الاستثنائية سوى الصمت) وقرينه المقيم أبداً في المحنة السورية إدوار شهدا ثم غسان نعنع، لا تكتمل مساحة الضوء في هذه الجماعة إلا بالسفر إلى جيلهم الكرافيكي تعبيرياً، هو المرتبط بتأسيس غياث الأخرس لقسم الحفر في كلية الفنون ثم رفده بمواهب مثل برهان كركوتلي والفرنسي غوتييه. من أبلغ ثمراته يوسف عبدلكي ومن أبلغ ما بعده من الرواد الجدد ياسر الصافي. يجمع الاثنان بين تعبيرية الكرافيك (الطباعة) واللوحة التعبيرية بامتياز.
دون أن ننسى خيرو حجازي (انقطعت أخباره مثل سابقه أدهم قوطرش) ثم نزار صابور وعلي مقوص وأحمد معلّا. من الضرورة استدراك بصمات المعلم فاتح المدرس في مساحة ريادة الفن الكردي الذي قاده بشار العيسى بفيافيه وفناءاته الرحبة ونسائه الموشومين بقدر الارتحال والغربة وضياع أوراقهم الرسمية. كلما شاخت ذاكرتي كلما اقترفت خطأ انزلاق الأسماء المضيئة المتزاحمة خلف ما أذكره من أسماء. علينا تدارك تجارب بالغة الأهمية للدحادحة بعد توأم الروح فائق وهم فؤاد (النحات والمصور المجيد) وباسم أحد الرموز الأساسية في التعبيرية المحلية، ثم إهلالة النحات عاصم باشا ومحمد عمران ومنهل عيسى ثم عمران يونس ومنيف عجاج وصفاء الست ودباغ. أما الرواد الجدد فأغلبهم لم يعبروا بعد إلى ذاكرتي المعمرة حتى أتهمها بالنسيان.
أليس مثيراً للعجب تفجر براكين مواهب رؤيوية بهذا العدد الهائل ضمن مجرى وخصائص التعبيرية السورية؟ بل وضمن روافدها التقليدية: التعبيرية الميثولوجية والتعبيرية الإحباطية والتعبيرية التراجيدية ثم الملتزمة وصولاً حتى التعبيرية السوريالية مع درويش، وروافد شتى تفرخ كل يوم مثل «مفاهيمية» نور عسلية وهمودية منيف عجاج بما ينسجم مع الصفة الثلاثية التي تتسم بها استمداداتهم الإلهامية: «وجدانية -وجودية – وجدية»، نستدرك بها التعبيرية الصوفية التي أسسها كل من نشأت الزعبي ومصطفى النشار والحديث عن قيامة وحشود هؤلاء لا تنتهي. ولأسماء فيومي وليلى نصير مثلاً موقفهما الخاص. هو ما يقودنا إلى الاعتراف بأن تاريخ التعبيرية السورية مسؤولية جماعية (حلقات بحث أكاديمية جادة)، ما أحاول بدوري أن أستدركه هو عجزي عن المتابعة كفرد (فنان وباحث في آن واحد)، أن أسلط الضوء على من غابوا عن مساحته بفعل الإهمال أو النأي كما فعل عاصم باشا وكرم معتوق وإبراهيم جلل وفرزات وكثيرون. أمسك هذه المرة ببركانين تعبيريين يستحقان المتابعة وهما:
النحات المهاجر ماهر البارودي والمصور النازح منيف عجاج
أذكر آخر مرة شاركت مع خرفانه المنحوتة (قبل نحرها) في معرض مشترك في ألمانيا، تغلب على معروضاته التعبيرية السورية. كان ذلك منذ ما يقرب من عشر سنوات ثم انقطعت أخباره رغم وجودنا المشترك في فرنسا. أنا في باريس وهو مدرّس للنحت في معهد فنون مدينة ليون حيث إقامته الدائمة منذ 1980م. هو من مواليد دمشق 1955م ومن جيل يوسف عبدلكي وأقرب الفنانين إليه مزاجاً وأسلوباً، خاصة في جانبه التصويري، لكن أصالته تتضاعف مع خصوصية نحته الجصي الأبيض بلون الخراف قبل نحرها.
كثيراً ما ينحتها بعد تقطيعها دون أن ينال منها الموت، متنبهة تشهد ذبحها وتشتتها الجسدي تماماً كما هي صورة أبطال زكريا تامر: يقظة وتنبه وشهادة الموت الحية. منحوتاته أقرب إلى شواهد القبور التي تقع بين النحت الثلاثي الأبعاد والبارولييف. هو من النحاتين المعروفين في فرنسا وحائز على عدد من جوائزها وعلى عدد من الأفلام الاستعادية، غزير الإنتاج والعروض المتباعدة في العالم العربي والغربي. تدعى تعبيريته بالفرنسية بـ«التشخيصية النقدية». فقد عرف بوجوه خرفانه المؤنسنة الواقعية والدرامية في آن واحد. تكشف حشوده نقداً مجازياً ملتزماً. وكأنه إشارة إلى تزاحم الشعب السوري إلى مذابحه الجماعية. لكن خصوبة مادته النحتية تتفوق على درامية شخوصه، وحمائمه، ومشهدية تكويناته الرمزية. هي التي ترسخ المفهوم المجازي: شعب قطيع الخرفان وقواده وجلاديه العسكرتاريا المشوهة. تصب في هواجسه النحتية الاستلهام من خرفان غويا وأشرار دومييه ضمن حرية في الرسم والنحت استثنائية في الموهبة.
أما منيف عجاج فهو من جيل الحرب (الرواد الجدد). أغلبهم نزحوا مع القيامة الشامية عام 2011م، بينما هاجر بارودي للدراسة الطوعية واستقر في منطقة ليون، تبدو تعبيرية منيف أشد احتداماً وبركانية واعتراضاً على قوى الشر لدرجة الجنون. عرف بتقصيه الاستلهام المختنق الانتكاسي والعزلوي والكافكاوي في المصحات العقلية المعروفة والمتباعدة، كما عرف في فرنسا بموهبته الاحتدامية الفذة مما سهل عليه مهمة العبور كمصور وشاهد إلى هذه المشافي. إن إمعانه في تصوير سلوك العصابيين وتقمّص أسلوبه لهيجاناتهم العاطفية لا يخلو من رغبة في النكوص إلى ذاكرة وجوه الحرب المجنونة في بلده. تتفوق أعماله الطازجة الأخيرة على معرضه السابق الذي تعرضتُ له في حينه، ولولا صعقة شخوصه الذهانيين الجدد لما وجهت الضوء النقدي على أهمية تجربته الأخيرة، قد لا يقل تأثيرها المستقبلي عن عمق تأثير المعلم فاتح المدرس ربما.
يتمثل الانفجار الطازج والجديد في محنة مصحّات منيف في البلاغة التعبيرية التي تصل في مسوخها إلى حدود العدم وطلاق الخط مع البقعة الصباغية الحدسية. كل ما تفرزه فرشاته المتقرحة المائية من غثيانات لا يقبل التعديل. (وذلك رغم إحكام موهبته لاختزالات التشريح ومتانة البورتريه العاصف). شخوص همودية تسكن مرآته المهمّشة شخصيات ازدواجية، مرة شبحية وأخرى ظلية واهنة عابرة مثل الوهم. شخوص بلا ذاكرة هائمون في اللامكان واللازمان. لعله الرمز الأشد تمثيلاً لعمودية الجرح الشامي، بألوان الدم والموت والعفونة، عالم منتزع من تمزقات القبور وأقبية العسس والعنف الانتحاري، عالم ملولب عبثي يدين كل ما هو سابق للمهارة والحذاقة التقنية، ولكنه لا يخفي إحكام التهور والصدمة الشمولية التي تشهد غروب كل ما هو إنساني في مسقط رأسه.
يبدو أن التعبيرية السورية مثل محنتها معين لا ينضب.