التصويت بالأقدام

32

“في عهود الديكتاتورية يصوّت الناس بأقدامهم عندما يرحلون”. هكذا تلخّص سلسلة وثائقية عن تاريخ كوبا، الجزيرة التي توعّد زعيمها التاريخي فيديل كاسترو إغراقها في البحر قبل أن تتخلى عن النظام الشيوعي، هجرة الكوبيين الكبيرة في العام 1980 لاجئين إلى الولايات المتحدة. 

في ربيع ذلك العام اقتحمت حافلةُ مجموعةٍ كوبيين من طالبي اللجوء، سياج السفارة البيروفية. رفضت السفارة تسليمهم للسلطات الكوبية، فجاءت مفاجأة كاسترو: أبعدَ الحرس عن السفارة، وسمح لمن أراد من الكوبيين بالهجرة. فكانت الفضيحة، ودائماً بحسب السلسلة الوثائقية، إذ اجتمع في يوم واحد في قلب السفارة حوالى عشرة آلاف طالب لجوء. وفي غضون الشهور القليلة التالية من تلك السنة، غادر البلاد، عبر ميناء ماريل إلى الولايات المتحدة، أكثر من مئة ألف لاجئ، غير عابئين بأخطار المحيط. 

لكن نظام كاسترو لم يفتْه، قبل أن يغلق باب الهجرة، وربما خشية أن تفرغ كوبا من سكانها، أن يطلق سراح المساجين الجنائيين وأن يفرغ مشافي الأمراض العقلية والنفسية، ليشكّلوا عشرة إلى عشرين في المئة من راكبي الأمواج. 

بعد أكثر من عشرة أعوام، وبالضبط في العام 1994، سيتكرر الهجيج الجماعي مرة أخرى (هؤلاء ليس لديهم ترف الابنة غير الشرعية لكاسترو، التي حصلت على جواز سفر إسباني مزوّر هربت به إلى الولايات المتحدة، لتبدأ على الفور بانتقاد نظام أبيها)، بعد تظاهرات غاضبة نادت بهتاف لا يشبه سواه في كل شعارات العالم. كان الناس، بعد عقود من حكم كاسترو، يائسين إلى حدّ أنهم لم يرفعوا شعارات الإصلاح أو التغيير أو الديموقراطية. بل صرخوا ملء حناجرهم: “نريد أن نرحل، دعونا نرحل”. ومرة أخرى فُتح لهم باب البحر ليركبوا طوافات وعبّارات متهالكة إلى الجهة الأخرى. ليقطعوا مئة وخمسين كيلومتراً، كانت هي فقط المسافة الفاصلة بين الحلم الأميركي، وجحيم الجزيرة الكوبية. 

أغلق باب الهجرات الكوبية الكبيرة في تلك الأيام، لكن ذلك لا يعني أن البلاد باتت من الرفاهية بحيث أن أحداً لم يعد يريد الهجرة، فالأرقام تقول إن حوالى أربعين ألفاً من الكوبيين يتركون البلاد سنوياً، وغالباً بطرق غير شرعية.

اليوم تذيع نشرات الأخبار اليومية حول العالم، أخبار وصور قافلة المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة، آلاف البشر الذين ضاقوا بالفقر والاضطهاد والبطالة والمرض وسواها قرروا أن يتوقفوا عن الموت خنقاً في ظل حكومات بلادهم، أن يهاجروا بأعداد كبيرة، متكاتفين خشية قطّاع الطرق والعصابات التي تشكّل أكبر أخطار الطريق. انطلقوا من هندوراس، وبينهم طالبو لجوء من غواتيمالا وسلفادور، لينضم إليهم آخرون من المكسيك. قطعوا آلاف الكيلومترات نحو الحدود المكسيكية الأميركية، غير مكترثين بتصريحات ترامب الذي وصف قافلتهم بـ”الغزو”، ولا بآلاف الجنود الذين نشرهم على الحدود. وقد بدأت تتدفق بالفعل صور المواجهات والغاز المسيل للدموع. 

في سجلات الأمم المتحدة اليوم، ملايين اللاجئين والمهاجرين، بسبب الحروب والاستبداد والكوارث وغيرها. العالم يغلي بأحلام العبور والحياة في مكان آخر، لا لترف، أو رغبة بالتجريب وأحلام السفر، بل من خوف وقهر وموت. سنين طويلة وما تزال البلدان المصدّرة للاجئين هي نفسها، كما أن الوجهة هي كذلك لم تتغير: أوروبا والولايات المتحدة.

لكن تلك الآلاف من اللاجئين حول العالم تبقى أرقاماً لا تذكر، أمام نزوح ملايين السوريين عن بلدهم (لا شك أن النظام سينتهز هذه الفرصة لإرسال عناصر تخريب إلى دول اللجوء على غرار المعلم الكوبي)، بسبب وحشيةِ نظامٍ لم يترك وسيلة إلا واستخدمها في ترويعهم. نصف السوريين اليوم خارج بيوتهم، ومع ذلك ستجد من يتحدث عن انتخابات في هذه السنة أو تلك، كأن هذه الهجرة الاستثنائية لا تعني شيئاً. وبعد استعادة النظام الأسدي معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة، أو سيطرة “داعش”، لم يستطع، رغم كل ما يتشدّق به من وعود وإغراءات، من إقناع سوى العشرات بالعودة إلى البلاد، رغم أحوال الناس المرعبة في مخيمات اللجوء. 

يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع في أجواء مرحة، دبكة وابتسامات وحلوى في أجواء اعتادوا تسميتها بـ”العرس الديموقراطي”. فيما يذهب مواطنوهم نحو مصائرهم، بعيداً من صناديق الانتخابات، متحدّين الموت والخطر والأسلاك الشائكة ورصاص حرس الحدود.. أيّهما التصويت الأصدق والأدق. ذاك الذي يُدفَع للناس، بطريقة أو بأخرى، لكسب أصواتهم؟ أم هذا الذي يدفع الناس من حياتهم وحياة أبنائهم تصديقاً له؟

لكن هذا ليس كل شيء، فالفساد والاستبداد تحت سقف النظام على حاله، إن لم نقل أمرّ وأقسى، بعدما بات السوريون على قناعة بأن أحداً في العالم لن يستطيع أن يغير النظام، وفي وقت أدار النظام ظهره للقوانين والأعراف الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، إن لم نقل إنه بات يتصرف نكاية بها، كما لاحظنا أخيراً في برنامج على شاشته الرسمية حين اتهم كل المنظمات الحقوقية والإنسانية، بما فيها “أطباء بلا حدود”، بأنها ذات أجندات غير بريئة. 

هذا ليس كل شيء، فقد تكون الثورة المقبلة في البلاد من دون مطالب، ولا أمل في الإصلاح أو التغيير. قد تكون من أجل هتاف واحد وحسب: “نريد أن نرحل. دعونا نرحل“.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here