السينما ورهان الذاكرة في “عالم ليس لنا”

18
“عالم ليس لنا”. إنها عبارة يائسة من دون شك، كتبها الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني قصة، وباتت عنواناً لمجموعته القصصية الصادرة عام 1965، غير أن فلسطينيي عام 2012 ليسوا أوفر حظاً، ففي الوقت الذي ظهر فيه فيلم تسجيلي حققه الفلسطيني اللبناني مهدي فليفل ويحمل العنوان نفسه، كان الفلسطينيون يرزحون تحت عبء اليأس، نتيجة العيش بعيداً عن وطنهم، وعلى هامش المجتمعات الجديدة التي لجؤوا إليها.
 
يحكي الفيلم  التسجيلي “عالم ليس لنا” قصة مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، المخيم الذي يكتظ بعشرات الآلاف من اللاجئين على مساحة لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد.
 
بورتريه مرح
 
هو “بورتريه” للمخيم، وإن كان بعدسة أحد أبنائه، أو ربما بسبب ذلك بالذات، فقد جاء فيلماً مرحاً متهكماً، يصور هذه البقعة المكتظة بالبشر والسلاح والمقاتلين والشهداء والمطلوبين كما لو أنها الفردوس المفقود، بل إن المخرج لا يتردد في القول إن المخيم هو “ديزني لاند” الخاصة به، هو الذي كان يعيش في الدانمارك ويقضي إجازاته الصيفية في المخيم.
 
مرح الفيلم يأتي أولا من ذلك الإيقاع الحيوي للمروي على لسان المخرج باللغة الإنجليزية، مرافقا شخصيات فيلمه والأمكنة التي صوّر فيها، ويصرّ المخرج على طريقة في الإلقاء لا تنزع إلى نبرة “ميلودرامية”، مع أن الصورة قد تدفع إلى أجواء حزينة ومليئة بالدموع.
 
والأهم المونتاج (“المونتير” مايكل أوغلاند) الذي حرص ألا يستغرق طويلا في مشهد أو صورة، وبراعة المونتاج تكمن في هذا الإيقاع الحيوي والسريع للمشاهد، والذي جعل من 93 دقيقة -مدة الفيلم- في منتهى الرشاقة والخفة.
 
لكن أهم أسباب المرح الموسيقى المرافقة للفيلم، لعلها من بين مرات قليلة لا يستخدم فيها تسجيلي عن الفلسطينيين أغنيات فيروز أو التراث الشعبي الفلسطيني أو ما سمي الغناء الملتزم. الموسيقى التي رافقت الفيلم كانت لآلات وألحان موسيقية غربية ولمغنّيين غربيين.
 
استخدام الموسيقى العالمية يشبه إلى حد كبير تصوير تفاعل المخيم مع مباريات كأس العالم -ففكرة الفيلم أساسا بدأت من هنا، على ما يقول المخرج- من تلك النار التي يبثها الحدث العالمي في قلب المخيم، حيث تشتعل المراهنات والمشاجرات وترتفع أعلام العالم.
 
هل أراد المخرج أن يضع المخيم في قلب العالم، أو أن يضع العالم في قلب المخيم؟ ربما ليقول إن لهذا المجتمع الصغير المهمل أحلامه كسائر البشر، وإنه يشتعل بالحياة والأمل مثلهم جميعا.
“يزجّ المخرج في فيلمه عشر سنوات من التصوير للمخيم، يضيف إليها ما ورثه من فيديوهات شبه منزلية صورّها والده المولع بالكاميرا”
المخرج يزجّ -تاليا- عشر سنوات من التصوير للمخيم في فيلمه، يضيف إليها ما ورثه من فيديوهات شبه منزلية صورّها والده المولع بالكاميرا. سيكون لديه أخيرا 75 ساعة تصوير، تجري “مَنْتَجَتُها” إلى 93 دقيقة.
 
قوة اليأس
 
يحكي الفيلم التسجيلي بشكل أساسي سيرة ثلاث شخصيات، تظهر من خلفها كل حكاية المخيم: الجد أبو أسامة، الذي جاء من بلدة صفورية شابا ابن 16 عاما وقد بلغ الآن الثمانين، مؤمن بحقه في العودة إلى قريته، كما يصرّ على البقاء في المخيم رافضا السفر إلى منفى آخر، إنه يرتبط ببيت بناه بيديه في المخيم وبات يعني له الكثير، وليس من السهل التفريط بالمكان الذي عاش كل حياته بين جنباته.
 
إنه في النهاية المكان الذي يطلّ منه على قريته القريبة في الشمال الفلسطيني حيث المسافة ليست سوى عشرات الكيلومترات.
 
لكنّ هناك وجها آخر من شخصية الجد، إنه ذلك الحضور الطريف الذي تولّده المطاردات المستمرة بين الجد وبين الأولاد، مطاردات موضوعها المطالبة بالهدوء والكفّ عن اللعب قريبا من الجد. إنه حال يضع الجد النزق دائما في وضع مضحك، يبدو لا يفعل شيئا سوى أنه يشتم كل ما حوله: الحياة، وضيق المكان، والأولاد، بل المصور والكاميرا أحيانا.
 
الشخصية الثانية، هي سعيد الشاب الممتلئ بالطاقة والحيوية، وينحصر عمله في أنه “كشاش” للحمام، تلك التي يمكن اعتبارها مهنة العاطلين عن العمل، وبائع لهذه السلعة أو تلك حسب الموسم، فهو أثناء كأس العالم بائع للأعلام، وهو دائما يبحث عن علب البيبسي المعدنية ليبيعها. إنها أعمال يفرضها التحريم اللبناني للاجئين الفلسطينيين من العمل في أكثر من سبعين مهنة، الوضع الذي أوصلهم في النهاية ليكونوا عاطلين عن العمل، وبلا مهن تذكر.
 
الناجي من المقلاة
 
أبو إياد، وهو الصديق الأقرب إلى المخرج، فيمكن اعتباره محور الفيلم وبطله، هو المقاتل السابق، اليائس الآن بلا حدود، وقد وصل به الحال أن يشتم فلسطين والفلسطينيين متمنيا لهم الموت.
أبو إياد بيأسه الصلد قد يكون نموذجاً لنفهم كيف ولماذا يفجّر الناس أنفسهم ومحيطهم، يائس من قيادته الفلسطينية ومن ثورته، ويتوجه إليها بأقذع الشتائم، وناقم على السلطات اللبنانية التي لا تسمح له ولأمثاله بحق العمل، وناقم حتى على فلسطين التي حشرته في هذه الوضعية الاستثنائية.
 
غير أن أبو إياد يقودنا إلى شخصية أخرى لا يمكن تجاهلها في الفيلم، هي شخصية المخرج نفسه، الذي يحاول أن يتوارى كمخرج وصانع للفيلم، ويحضر كشخصية تنتمي إلى المكان نفسه. إنه (المخرج) حاضر في كل تفاصيل الفيلم، كنموذج لما يمكن لأناس المخيم أن يكونوا عليه لو أتيح لهم.
 
لقد نجا من المقلاة. استطاعت عائلته أن تنجو بنفسها عبر السفر إلى الإمارات، ومن ثم الاستقرار في الدانمارك، وأتيح له بالتالي أن يكون المخرج الذي عاد ليقدم مأساة المخيم، ومأساة عائلته وأصدقائه بالذات.
 
يريد المخرج بالطبع أن يحكي حكايات شخصية جدا، ولكن من دون أن ينسى أنه يحكي حكاية شعب.
 
سنجده دائما يعود إلى المخيم وشوارعه وأزقته، ليذهب أحيانا إلى أسّ المصيبة الفلسطينية بتأسيس الحركة الصهيونية والنكبة التي حدثت للفلسطينيين جرّاءها، ملتفتا إلى بعض الأحداث المفصلية في تاريخ الفلسطينيين، كاتفاق أوسلو والمصافحة الشهيرة المذلة (كما يظهر الفيلم) حين يمدّ ياسر عرفات يده مصافحا إسحق رابين الذي يمدّ يدا مترددة.
لاجئ في برلين
 
الشاب أبو إياد يستقيل من حياته كمقاتل ويخطط للنجاة بجلده عبر السفر إلى اليونان ومنها إلى جنة الغرب، يخفي حلمه عن أصدقائه وأقاربه، ويبوح به فقط للكاميرا، وفي اليونان سرعان ما ينكسر حلمه لتعيده السلطات اليونانية إلى مخيمه.
 
سنراه في شارع معتم في اليونان جالسا إلى الرصيف بوجه في منتهى اليأس والحزن، ليختم الفيلم بعبارة تقول إنه أعيد إلى المخيم.
 
عدوى اليأس لعلها ستصيب المشاهد أيضا. يفكر المرء هنا في حال عشرات الآلاف من الفلسطينيين في هذا المخيم، بل وأمثالهم في مخيمات أخرى في أحوال مشابهة، أو أشد سوءا.

حتى لو نجا أبو إياد، نعرف أن مئات الآلاف غيره يعيشون المأساة ذاتها. نحن بالفعل سنعلم لاحقا أن بطل الفيلم سينجو حين يعرض الفيلم في برلين ويدعى إلى حضور الفيلم فيبقى هناك لاجئا فيها. ولكن من لملايين الفلسطينيين؟

 

إنه فيلم عن اليأس، لكنه ليس فيلما يائسا بالضرورة. ففي الفن والسينما نوع من الأمل، إنها نوع من “أضعف الإيمان” الذي بإمكانه أن يواجه دافيد بن غوريون رئيس الحكومة الإسرائيلي الذي وعد العالم بأن الأجيال المقبلة من الفلسطينيين ستنسى قضيتها. هذا ما يأتي الفيلم على ذكره، الفيلم -على الأقل- كسب لهذا الرهان.

“الجزيرة”
2014/6/22

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here