“كفرناحوم” ونقّاده: لحظة الحقيقة

171

يحدد فيلم “كفرناحوم” وجهته في مشهدين افتتاحيين، زين، الطفل ذو الاثنتي عشرة سنة واقف، بعد ارتكابه جناية طعن، أمام طبيب السجن محاولاً أن يحدّد عمره بالكشف عن أسنانه، ثم مشهد عاملات بيوت بملامح أفريقية وقفن أمام رجل الأمن بذلّ يذكّر بأرتال المستعبدين في أفلام العبودية. من هنا سندلف إلى عالم من القضايا المتشابكة، والتي يصعب رؤيتها كقضايا منفصلة: أحزمة الفقر، أطفال الشوارع، العنف الأسري، زواج القاصرات، اللجوء، البِدون، شبكات الاتجار بالبشر، المخدرات، البطالة، عدم أهلية السجون، التلوث، السكن.. عناوين كثيرة، لكنها تقف على أرض واحدة.

مشكلات سيثير مجرد التطرق إليها اعتراضاً، إذ اعتُبر الفيلم “جاهزاً منمّقاً لمهرجانات السينما”، ولا يعدو أن يكون “حيلة”، حيث “كل الموضوعات مجهّزة للظفر بجائزة” (بحسب شفيق طبارة في “المدن”)، فماذا بقي من قضايا يمكن طرحها من دون أن تحسب على أجندة أممية مشبوهة، أو مؤامرة كونية. لقد تحولت هذه الطريقة إلى كليشيه نقدي جاهز لاصطياد أي مبدَع فني فقط لمجرد عنوان القضية.

لو كانت أمك هنا

يعيش زين مع أسرته كبيرة العدد في أحد أحزمة البؤس، الأب سكّير وبلا عمل، في بيت يكتظ بالأطفال وبالشتائم وانعدام أدنى شروط الحياة. هنا حيث الولد الجاهل لم يعرف المدرسة قط، تربى في الشوارع وفيها كبر قبل الأوان، يجد نفسه يتصدى لتزويج أخته القاصر التي لم تتجاوز من العمر عشر سنوات. لكنه لا يفلح في تهريبها، ولا في منع الزواج، فيهجر البيت.

أثناء تشرده يتعرف زين إلى العاملة الإثيوبية راحيل في مدينة الملاهي، حيث جاء يبحث عن عمل. انتبهتْ إليه فيما كان يتلهى بالكشف عن ثديي المانيكان/الدمية الضخمة (الثدي سيشكل لازمة للكاميرا تعود إليه في أكثر من مشهد كأنما لتحكي حاجة الصبي إلى الأم، كأن لسان حاله يقول: لو كانت أمك هنا. واضح أن للأم بعداً رمزياً. مشهد يعزّزه طفل السيدة الإثيوبة في بحثه المضني عن ثدي الأم). ستحنو راحيل على زين، تأخذه إلى منزل التنك الذي تعيش فيه. سيكون بيت التنك هذا مأوى لزين المشرد، كما سيكون زين حلاً بالنسبة لها إذ تتركه مع صغيرها الرضيع، يرعاه ريثما تعود. لكن يحدث أن تسجن بسبب عدم حيازتها للأوراق اللازمة للعمل. يحار الصبي زين، يأخذ الطفل الرضيع ويمضي به إلى الشوارع، يسرق من أجل أن يطعمه، ينتحل دور لاجئ ليأتي له بالحليب، إلى أن يضطر لبيع الطفل لمن كان يحاول أصلاً شراءه من الأم، يبيعه لرجل عصابات يعد زين بتهريبه خارج البلد ليحقق حلمه باللجوء.

يضطر زين للعودة إلى بيت أسرته للحصول على أي ورقة تثبت هويته فيكتشف أن أخته الصغيرة قضت جراء مضاعفات الحمل، ولأن مشفى لم يسمح باستقبالها من دون أوراق شخصية. يأخذ سكين المطبخ راكضاً نحو زوج أخته القاصر فيطعنه.

أثناء إقامته في سجن رومية، تلمح راحيل زين في أحد تنقلاته، فتدرك على الفور أن رضيعها الآن بلا مأوى، تصرخ حد الانهيار، وهنا تكون بداية بحث القوى الأمنية عن الطفل، إلى أن يعثروا عليه لدى شبكة للاتجار بالبشر.

في السجن ستقدم راحيل واحداً من مشاهد الفيلم الأكثر تأثيراً، فهي لا تملك شيئاً تفعله إزاء رضيعها غير الشرعي بالأساس (أنجبته من ناطور بناية) سوى أن تطلب المغفرة، فيما تعصر ثديها فيفيض الحليب بين أصابعها، كما لو كان نوعاً من البكاء. تذهب الكاميرا أيضاً إلى رضيعها المعذّب بغيابها، نرى ألمه وعذابه بمشاهد واقعية ومؤثرة للغاية.

ضد النظام

يقترب فيلم “كفرناحوم” من السينما الوثائقية، لقد صُوّر في أحياء وبيوت وشوارع واقعية من دون تعديل يذكر. أَخَذَ لقطات من الشوارع كما هي، صَوَّر السجن بتفاصيله الرهيبة، عرض الفقر كأفظع ما يكون، المياه الملوثة، الطين، بيوت التنك، النفايات، دواليب السيارات المتناثرة على الأسطح، المدينة الرمادية الاسمنتية البشعة الأقرب إلى مقبرة تغيب عنها الأشجار.. كذلك فإن ما يزيد في “وثائقيته” اعتماده على شخصيات حقيقية تنتمي إلى تلك الأمكنة، لكن عبر سيناريو وضع سلفاً، ولكن مجريات تصوير الفيلم جاءت في مفاصل منها لتتقاطع مع الحقيقة، فالعاملة الإثيوبية راحيل تسجن في حكاية الفيلم، كما تسجن بالفعل أثناء التصوير.

الصبغة الوثائقية للفيلم تحسب له، ولطالما اعتُبرت هذه السمة أفضل مديح لفيلم (وفي المقابل ستجد أن أجمل مديح لفيلم وثائقي أن يقال إنه يبدو أقرب إلى الروائي). يصعب أن تجد فيلماً روائياً يقترب من السينما الوثائقية قدر ما اقترب “كفرناحوم”. إنه وثائقي إلى حد يبدو معه السيناريو مجرد ذريعة لتصوير خراب المكان وأحوال البؤس. يبدأ الفيلم بلقطات عامة واسعة للمدينة، وهو دائم العودة إلى هذه اللقطة، وفي واحدة منها تتقصّد الكاميرا تصوير الصليب مهيمناً على المدينة، تليه فوراً صورة لمئذنة مسجد. لا يعفي الفيلم الأديان من مسؤولية الجحيم الذي نراه. سنرى أصابع الاتهام موجهة للأديان مرة أخرى في السجن، عندما جاءت فرقة غنائية، على رأسها امرأة تقول إنها راهبة، جاءت مع هذه المجموعة لتعزف وتغني للسجناء. بدا السجناء وهم يرقصون أمام غناء أولئك العابرين كأنهم قردة في أقفاص يرقصون أمام سياح عابرين. بعدها سنرى السجينات وقد غطين رؤوسهن بمنديل أبيض موحد، كما لو أن الكاميرا أرادت القول إن الأديان هنا تمارس عملها الخيري تجاه السجناء من باب التبشير الدينيّ، ولا يبدو أنها مهتمة بالفعل بحقوق السجناء وكرامتهم.

المشاهد الوحيدة التي بدت مقحمة على الفيلم-الوثيقة هي مشاهد المحكمة. هذه التي جاءت لتفسر سلوك الشخصيات، لتفسح لها أن تدافع عن نفسها، وكان بإمكانها أن تفعل ذلك، إن كان ضرورياً في الأساس، بين ثنيات الحوار على مدار الفيلم. وإذا كانت المحكمة مفتوحة للاستماع إلى قضية رفعها زين على أهله لأنهم أنجبوه، ففي ذلك تناقض كبير بين الاحتجاج “الفلسفي” للولد الجاهل ولغة الفيلم المفرطة في الواقعية، بل إنه تناقض مع لغة زين نفسه التي جاءت في الغالب صادمة ببذاءتها وشارعيتها.

لا يسمي الفيلم مكان حكايته بالضبط، لا نعرف إن كان مخيماً أو تجمعاً للاجئين السوريين، لكن التعميم هذه المرة يلقي المسؤولية في أحضان الجميع، فلو تحدّث الفيلم عن مخيم فلسطيني لباتت مشكلة الفلسطينين وحدهم، بتفاصيلها المعروفة والتي تعني حقوق العمل والتعليم، وتداخل المسؤوليات ومتطلبات السياسة.

كذلك فإن كثيراً من اللقطات والمشاهد أوسع وأبعد من ضرورات الحكاية، مثلاً حين تسلّط الكاميرا على صناديق الأمانات في داخل السجن، لتقرأ عليها: سوداني، سوري، عراقي، فلسطيني.. وسواها من جنسيات ملعونة، تشير إلى أوطان منكوبة. لقطة عابرة بالكاد تلمحها، لكنها تذهب بالمشكلة إلى أبعد من شخصيتي زين وراحيل.

المكان الذي تدور فيه أحداث الفيلم واضح ومحدد، ليس أي مدينة في العالم ما دام يتحدث بلهجة صريحة، ويصور لباس رجال أمن معروف، لوحات سيارات، وشوارع مألوفة. كذلك فإن الكاميرا لا تدخل سجن رومية على أنه كناية عن مكان مطلق، عن سجن ما، إنها تدخل سجن رومية وتسميه، كما تبرز تفاصيله المروعة. وإذا لم يسمّ الفيلم مسؤولاً ويشير إلى سبب، فلأنه بالضبط يعني الجميع، يعني الاعتراض على نظام حياة جعلنا جميعاً نتغاضى عن وضع لا يطاق.

النظرية السببية

هنا أيضاً سنجد أنفسنا أمام موضة نقدية أخرى تطالب العمل الفني أن يشير بأصابع الاتهام إلى جهة بعينها، وإلا يكون قد قال فقط “نصف الحقيقة”، بحسب ما كتب الروائي الياس خوري. فبحسبه “قدّم الفيلم صورة قاتمة لمجتمع هامشي قائم على القمع الذاتي”، وأن نادين لبكي “جعلت الفقراء مسؤولين عن مآسيهم”، و”البؤس الاجتماعي مسؤولية البائسين”. لا ندري كيف، كما لا ندري إن كان مطلوباً من الفيلم أن يشكّل بيان إدانة قضائي، أو اتهام سياسي مباشر، لكن نأمل فقط من خوري أن يطبق هذه النظرية (لنسمّها “النظرية السببية في نقد الأفلام السينمائية”) على الفيلم الوثائقي السوري “طعم الاسمنت”، الذي سبق أن كتب عنه مطولة مدائحية، علماً أن الفيلم أثار اعتراضات مشابهة حول تغييبه سبب الحرب وهجرة العمال السوريين.

الكاتب روجيه عوطة يتفق مع خوري بخصوص “نصف الحقيقة”، ولو أنه يذهب أبعد حين يتهم “كفرناحوم” بالعنصرية. كيف؟ هذه يلزمها غطاس ماهر كي يغوص في أعماق النص الغامض والمتفلسف، على عادة عوطة، لاكتشاف كيف أن فيلماً سمته الأبرز دفاعه عن المهمشين من أطفال شوارع ومساجين وبدون ولاجئين وخادمات بيوت.. يصبح عنصرياً، بل “فيلم العار الذي يأخذ “طابعاً إنسانياً عميقاً”!

لكن مهما ابتعدنا في تصور التلقي النقدي لفيلم “كفرناحوم” يصعب أن نتوقع الزواية التي نظر منها ناقد سينمائي متمرس كابراهيم العريس. فهو وجد في فيلمها “ثأراً شخصياً من مدينة بيروت”، فبعد أن رشحت لبكي نفسها للمجلس البلدي لمدينة بيروت، ولم تحظ بالفوز “قررت أن تثأر من أهل بيروت الذين خذلوها في معركتها البلدية. ولربما كان «كفرناحوم» سلاحها في ذلك الثأر”.

واعتبر العريس أن بيروت التي ظهرت في “كفرناحوم” “لا تشبه بيروت إلا في مخيلة مبدع يريد أن يثأر من مدينة خيّبته”. وبدل أن يحاول العريس البحث عمّا جعل الفيلم يفوز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في “مهرجان كان السينمائي” الأخير، وجد أن من الأسهل الطعن بأعضاء اللجنة نفسها: “لسنا ندري شيئاً عن الثقافة السينمائية لأعضائها وإن كنا نعرف أن اثنين من هؤلاء كان يهمهما التعبير عن حبهما لوطن الأرز، كما نعرف أن غالبية الأعضاء النساء، كن يجدن لزاماً عليهن أن تعطى جائزة ما لامرأة، في عام «التحرّش» الشهير هذا”.

لكن “كفرناحوم” واحد من الأفلام التي لا يمكن أن تخرج منها مثلما دخلت. فيلم مؤثر وصادم بمشاهد لطالما أشاح الناس بنظرهم عنها لفظاعتها، بل وفوق ذلك زوّدوا أنفسهم بنظريات ومسوغات تعينهم على تبرير التجاهل وعدم النظر.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here