تراجيديا روضة الأطفال

56
 
 

يصعب أن يتخيل المرء أن يشكل عالم رياض الأطفال الملون، المكتظ بالرفاهية والألعاب، نوعا من مواجهة تراجيدية مبكرة للناس مع الحياة (لنقل إنها المواجهة التراجيدية الثانية، بعد الخروج الكبير للمرء من رحم أمه الدافئ الرطب إلى برد العالم وقسوته).

 

يبدو أنه كان علينا مشاهدة الفيلم التسجيلي “روضة الأطفال” (70 دقيقة) للصيني يكينغ زانغ، كي نرى نحو أي عالم فظيع نلقي بأطفالنا حين نأخذهم إلى هناك.

يبدأ الفيلم من تلك اللحظة التي ينتزع فيها الأطفال من ذويهم ويلقون بلا رحمة في هذا العالم الغريب. صحيح أن الروضة التي نشاهدها في الفيلم مجهزة وأنيقة وقد تشكل بالفعل ملاذا دافئا، سوى أنها تظل مكاناً معادياً، يبدو فيه الأطفال منتزعين من ألفتهم، وهم لذلك -وبهذه الدرجة أو تلك- سيقضون الوقت في البكاء مع صرخة واحدة مكررة “أريد الذهاب إلى البيت”.

 

ومهما نجحت المعلمات في إلهاء الأطفال، سيعثرون على لحظة ما للتذكر والصراخ من جديد. غالبا ما يحاول الأهل التشاغل عن بكاء أطفالهم لحظة تركهم في الروضة، وتناسي ما يمكن أن يحل بهم، بذريعة أنها سنة الحياة، وأنها لحظة لا بد آتية، لكن الفيلم سيضع المرء بالضبط أمام ما حاول التشاغل عنه، أمام عذاب هاتيك الصرخات “أريد العودة”، “أريد البيت”. ولو أن الصرخات اختلطت أحيانا بشيء من الكوميديا، مثلا حين يقول الطفل عبارته تلك عن العودة فيما ينهش تفاحة، يختلط الصراخ والألم والدمع واللعاب السيال وأكل التفاح.

 

كلمات الأطفال عن العودة لن تكون كلمات وحسب، هي كذلك خبط بالأرجل على الأرض، شد وجذب ومحاولات للتفلت وقلب الطاولات وغضب، حومان دائم قرب أبواب الخروج. لقد تكررت كثيرا تلك الصور الجميلة الحزينة لأطفال يقفون أمام باب موارب مع ضوء قليل من الخارج، والعيون شاخصة بأسى.

 

هكذا سيكرر الفيلم لعدة مرات لازمة غنائية تقول: “ما أجملها زهرة الياسمين، تزهر في جميع الفروع بعذوبة وجمال، بيضاء وتفوح برائحة العطر، الجميع يحبها، دعيني أقطفك وأهديك للآخرين”.

 

من الواضح أنه أراد أن يتحدث عن ذلك الانتزاع، اقتلاع المرء من مكانه الأليف، ووضعه في مناخ آخر، كأن الفيلم برمته عرض لمحاولات التكيف التي تفرض على المرء. لذلك فإن سير الفيلم يبدأ من لحظة الاقتلاع التراجيدية ثم يمضي أيسر فأيسر.

 

في هذا السياق، يختار الفيلم مقطعا من حياة الأطفال في الروضة وهم يتدربون على أغنية مع المعلمة، عازفة البيانو، في لازمة تقول “سنفعل مثلما تفعلين”. 

 
 

هو إذن فيلم عن التكيف، والانخراط، أي التدجين والدخول ضمن القالب. هو ذا ما نسميه التعلم، وكلما تعلمنا أفضل -أي كلما دخلنا في القالب- سيكون النجاح حليفنا. لذلك يكرر الفيلم مقاطع لولد بارع في الحسابات الذهنية، كأنما ليقول هو ذا النموذج الذي يجري السعي إليه.

 

لا يبدو بلا هدف أن الخروج الوحيد من الروضة الذي تهتم الكاميرا بتصويره كان زيارة الأولاد لمصنع الكوكاكولا، هناك وضعوا أولا في صالة عرض لمشاهدة بعض الإعلانات للاختراع الأميركي الشهير، ثم نراهم يلتقطون صورا جماعية أمام صناديق الكوكاكولا الهائلة العدد، والتي لا يبدو الأطفال إزاءها سوى أصفار. كأن الكاميرا تضع تلك المشاهد في سياق انتقاد عملية التكيف، هو ذا ما نصبو إليه؛ عالم الكوكاكولا، بما يعنيه المنتج الشهير من علامة استهلاكية شديدة الرواج.

 

سيكون الأولاد أمناء أيضا لصورة الخارج، الوسط الذي جاؤوا منه، سنرى كيف جرت تعبئتهم بثوابت وأحقاد ومفاخر قومية وأوهام وسواها، أشياء أكبر منهم بوضوح. سنرى كيف يتقاذف الأولاد طائرات ورقية، مع عبارات انتصار تقول “اقتلوا الأميركان الأوغاد”، يليها حوار مع طفلة تتحدث عن اصطدام طائرة بمبنى. كان حديثا عن 11 سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة.

 

ها هم أطفال الروضة يعرفون كل شيء إذن. ليس ذلك وحسب، إنهم يرِثون صورة لا تتزحزح عند ذويهم عن “اليابانيين الأشرار، الشياطين”، لا تميز طفلة “بين صالح ياباني أو طالح”. هي تقول العبارة هكذا كما حفظتْها، كما حفظها الأطفال، من بين أشياء ونقاشات أخرى ثابتة حفظوها، كالاعتراض على سياسة تحديد النسل التي ستجعل الهند متفوقة على الصين.

 

ومن بين أبرزها أيضا تعصب الأطفال لفريقهم لكرة القدم، كيف لا يتعصبون والتهديدات جارية بأن لا عودة إلى المنزل إن خسر فريق الصين! منذ ذلك العمر يتعلم الأطفال كيف يتعصبون لفريقهم، كيف يضعون عصبة حمراء على رؤوسهم، ورسوما قومية على وجوههم، ويهتفون لبلدهم، من أجل فوزه، وخسارة الفريق الآخر.

 لكن في الفيلم ما هو أهم من ذلك، أهم مما يجري تلقينه بقصد أو من دون قصد. إذ ينقل الفيلم حوارات ومشاهد وصورا في منتهى العبث، كما لو أنها صممت لتكون مشاهد من مسرح اللامعقول.

 

“اليوم الخميس، وغدا الجمعة”، يقولها ويكررها الأطفال ويفرحون كما لو أنهم ينتظرون شيئا. نراقب مثلا كيف وضع ولد لصاقة منتج ما على وجهه ونشهد (ونضحك) الألم الطفيف الذي يعانيه الطفل حين يحاول انتزاع اللصاقة. نراقب ذلك بتمهل، يصبح انتزاعها وكأنه حدث درامي. نتابع عبارات من غير سياق مثلما حين يقول ولد “أشعر بالحزن في قلبي”، أو حين يقول آخر “أنا منزعج هنا”.

 

كذلك الأمر حين يُسأل ولد لماذا أرسله أبواه إلى هنا؟ فيجيب بأن أهله ليس لديهم الوقت الكافي، فالأم -على ما يقول بجدية- مشغولة بالتجميل، والأب مشغول بدعوة الآخرين على العشاء.

 

في كل ذلك يبدو وكأن الفيلم جاء يصور حيرة الإنسان، توهانه، وعدم تآلفه. لذلك تطيل الكاميرا في تصوير محاولات طفل متكررة لرفع كرسي فوق آخر، من غير جدوى. هناك الكثير من هذه المشاهد حيث الأطفال يقومون بحركات بلهاء، من قبيل “الشخبطة” على الطاولات، أو التصويت في الفم مع وضع اليد على الفم بشكل متكرر، هذا إلى جانب المحاولات العسيرة في ارتداء حذاء، أو كيف يتحول الاستحمام والصابون على الرأس والجسد كما لو أنه عملية تعذيب حقيقية تدفع الأولاد إلى الصراخ وطلب النجدة.

 
 

أمس بالذات لفتني رجل عجوز كان يتناول غداءه في مطعم، يبدو أنه مصاب بالباركنسون، كان يأكل بيد مرتجفة مع صعوبة بالغة، يحاول رفع يد بمساعدة اليد الأخرى. كان وصول ملعقة واحدة إلى فمه يتطلب جهدا كبيرا، وكان فشل مرة واحد فقط كفيلا بأن يلوث ثيابه بالكامل. هنا تكفلت زوجته العجوز بنفض ثيابه. أثناء مشاهدة “روضة الأطفال” لم أستطع منع نفسي من التفكير بتلك العبارة لصموئيل بيكيت (وأرجو أن لا تخونني الذاكرة) حيث يقول إنهم يعلموننا المشي أطفالا كي نصل كبارا إلى هذا المصير المأساوي من العجز.

 

 

لا نتحدث عن العبث ومسرح اللامعقول من فراغ، يخطئ من يتصور أن هذا الفيلم عن الأطفال، ولا حتى عنا نحن الكبار فحسب. إنه عن فظاعة العيش، عن وحدة الكائن البشري، عزلته وحزنه وحيرته. بلى، كل ذلك في فيلم “روضة الأطفال”.

 

راشد عيسى

 

2015/8/24

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here