صدر حديثاً للمؤلف الموسيقي وعازف العود السوري حسان طه، المقيم في مدينة برن السويسرية، ألبوم غنائي بعنوان “الروزانا”. وقد صنّفت “الروزانا”، الأغنية التي حمل الألبوم اسمها، من ضمن أفضل نتاجات موسيقى العالم في سويسرا للعام 2018. في الألبوم مجموعة أغنيات، نصفها ينتمي للفولكلور السويسري بصوت مغنية سويسرية هي باربارا برجر، ونصفها الآخر شرقي بصوت المغنية السورية نجاة سليمان. في التجربة شيء من المغامرة بالاشتغال على ألحان وأغان مكررة. لكن الفنان، مع شركائه من الموسيقيين، استطاع حقاً أن يُغْني تلك الأعمال، بألحان وآلات موسيقية قد تبدو غريبة عليها.
–ألبوم يجمع أغنيات سويسرية مع أخرى شرقية، من أين بدأت فكرة “الروزانا”؟ كيف جرى اختيار هذه الأغاني بالذات، هل هناك رابط ما يجمع الأغاني الشرقية بنظيرتها السويسرية؟
* هو خلاصة مشروع وضعتُ فكرته وخطته مع بداية العام 2015، هنا في مدينة برن السويسرية. هو مشروع موسيقي غنائي- آلي يتعامل مع الموروث الموسيقي التقليدي السوري/الشرقي، والسويسري/الأوروبي، من وجهة نظر موسيقية تفسيرية تأليفية جديدة وشخصية تعتمد على الخوض في البناء اللحني اللوني لهذا الموروث، أكثر من جانبه العاطفي الحسي الشائع والمتداول. يتضمن الألبوم خمس أغنيات معروفة جداً من الموروث السوري/ العربي، وخمس أغنيات من الموروث السويسري. ما قمت به ينطلق من المحافظة على الألحان الأساسية لهذه الأغاني، إضافة الى تأليف موسيقي آلي يحاكي هذه الألحان ويضيف إليها مناخاً صوتياً و لونياً جديداً.
إلى جانب عوامل قد تكون ساهمت في بزوغ الفكرة، من بينها الحنين إلى الوطن، الطفولة، الزمن جميل.. فإن الألبوم يحمل بداخله مفهوم اللقاء. إنه، كأي لقاء إنساني واعٍ ومنفتح وندِّيّ، يتضمن التقاطع، الاختلاف، والتوازي. بالنسبة إلى اختيار الأغاني الشرقية، فقد كان محكوماً بحقوق الملكية، وهذا دفعني لاختيار أغان إما مجهولة الملحن، أو أنها لُحنت من زمن طويل، كما الحال مع أغنية “يا طيرة طيري” للملحن والمسرحي السوري أبو خليل القباني. بالنسبة للأغاني السويسرية، هناك معايير عديدة لاختيارها: طبيعة اللحن، محتوى النص، مدى المساحات الموسيقية اللونية التي يمكن أن يثيرها اللحن للاشتغال الآلي عليه، مدى لقاء وتضاد وتوازي هذا اللحن مع الألحان الشرقية، مدى شعبية هذا اللحن في الموروث السويسري واستمراره إلى اللحظة الراهنة، إلى ارتباط هذا اللحن بقصة أو حادثة تاريخية.
– أي مغامرة دفعتك للعمل على أغان، مكررة ومشغول عليها مراتٍ كثيرة. الأغاني العربية خصوصاً، ما الجديد الذي يمكن أن يضاف إليها؟ أين وقع عملك بالضبط في تلك الأغنيات؟ وهل تلفتك نسخ بعينها قدمت تلك الأعمال؟
* إنها مغامرة تتعلق بكسر الاعتياد، وإعادة النظر في الأوليات. قد تكون أيضاً احتجاجاً شخصياً وعدم رضا عن كيفية المعالجات الموسيقية السابقة والحاضرة لهذه الأغاني التقليدية العربية ومعظم الموروث العربي الشرقي، أو ربما فقط متعة العودة إلى الحي، الشارع، البيت، طريق المدرسة القديم.
الشيء الأساسي الذي أعتقد أني قمت به هو، تحويل هذه الألحان من مجرد أغان بسيطة إلى عمل موسيقي واضح المعالم ومتعدد الخطوط والمناخات الموسيقية، من خلال تأليف المقدمات الموسيقية التي بُنيت على ثيمات من لحن الغناء نفسه مع تفاعل بسيط وتحولات قصيرة، تأليف المرافقات الآلية للغناء، تأليف الفواصل الموسيقية بين المقاطع الغنائية، وأخيراً تأليف النهايات الموسيقية التي تذيّل الأغنية.
وقد ساعد على هذا، التوسع والكتابة التنوع الموسيقي اللوني للآلات الموسيقية المستخدمة، والتي ساهمت بخلق مناخات صوتية جديدة، والكتابة الموسيقية لكل آلة موسيقية كصولو أو مع المجموعة. تم العمل أيضاً على طريقة الغناء نفسها (العربية والسويسرية)، انضباطها وعدم المبالغة العاطفية، العمل على التلوين الغنائي، وعدم استخدام أي عناصر غنائية من أساليب الغناء الأخرى، مثل الجاز الروك أو الأوبرا الشائعة شكلانياً، والتي تعتبر عادة معياراً حداثوياً لمعظم السائد.
-هل ترى أن ألبوم “الروزانا” حقق المعادلة بين متطلبات السوق وطموحك الأكاديمي؟
* “الروزانا” يحقق جزءاً من طموحي الأكاديمي موسيقياً، جمالياً، وإبداعياً، لأنه يحمل وجهة نظري الشخصية وكيفية انشغالي واشتغالي في/على الموروث الموسيقي التقليدي. إلا أنه بالتأكيد لن يحقق متطلبات السوق المحكومة بشكل خاص بموضة الوورد- ميوزيك، الأورينتال-جاز، العولمة، الاستسهال، التمييع، مع خلط المفاهيم والارتجال…إلخ! لكني أعترف بأنني بهذا الألبوم أعود للغنائية والكتابة الموسيقية التي تحمل الطابع الغنائي الانسيابي، والتي ربما تحقق نجاحاً ما، لأنها قد ترضي جميع الأذواق. هذه المعادلة الحالية، وربما الآنية، لم تكن بالنسبة لي بالأمر السهل، لكني أستطيع بشكل عميق أن أستشعر سبب العودة إلى هذه الغنائية التي حطمتُها في أعمال سابقة لي، ربما هو الحنين والفقد، أو الرغبة القصيرة بإعادة التواصل ونبش بعض اللحظات العابرة من زمن جميل.
كليشيهات غربية
– في حوار سابق، قلت إنك خارج الإطار الذي يحدّده الغرب. هل تعتقد أن هذا الألبوم يقع كذلك خارج هذا الإطار؟
* نعم. بشكل عام، وبعيداً من الاستثناءات، فإن الغرب، مؤسساتياً وكأفراد، لديه كليشيهاته الجاهزة حول كل ثقافة تأتي من الخارج. كل محاولة للخروج من هذه الأطر والمحدِّدات (ولقد ساهم في تكريسها أبناء الثقافات الوافدة أنفسهم، بقبولهم للعمل ضمن هذه الكليشيهات، وبالتالي تقديم ما يُرضي السوق ومتطلباته بدافع الاستسهال أو الشهرة، أو ربما لافتقادهم لمشروع ثقافي بحثي جاد يحمل مغامرة ويقدم مادة إبداعية ندّية وبديلة) ستحتاج إلى طاقة كبيرة، جهد، قدرة على تحمّل العزلة، والعمل، وهذا له ضريبته المتعبة، منها البطء في الإنتاج بسبب الوقت الطويل الذي يتطلبه البحث، وتحتاجه الكتابة الموسيقية نفسها، إلى تجميع كادر موسيقي لديه الانفتاح والاستعداد النفسي والموسيقي لخوض هذه المغامرة وتنفيذها، إلى جانب مشاكل التمويل.. الخ. “الروزانا” خارج سياق هذه المحدِّدات والأطر الجاهزة والخانقة. لقد احتاج لأربع سنوات من العمل (كتابة المشروع وجمع المواد، البحث عن تمويل، تشكيل الفرقة الموسيقية، التأليف الموسيقي، البروفات والحفلات ثم التسجيل) ليصل بهذا الشكل إلى السوق الموسيقي.
(التصوير: طلال دقماق)
– لنجاة سليمان، شريكتك في مشروعك الموسيقي لسنوات طويلة، والمغنية في هذا الألبوم، صوت ساحر، لكنه غير معروف للجمهور، أسوة بزميلات لها لمعنَ في سوق الأغاني، ألا تعتقد أنها ظلمت إلى حد ما بهذا التطلّب الأكاديمي؟
* أنا أجده اختياراً شخصياً من نجاة المغنية المتطلبة والباحثة عن المختلف الذي لا يدور في فلك الآخرين وأساليبهم الجاهزة. هو بحث عن عوالم أخرى ضمن إطار الغناء العربي لا يتوافر في سوق الأغاني. أعتقد أن من ظلم نفسه هو من قام بالرضوخ لمتطلبات السوق فقط. هنا أود التذكير بأن نجاة كانت قد غنت عملي “لاعب النرد” الذي كتبته لصوتها، وأجده يطرح فضاءات آلية صوتية ولونية للغناء العربي مختلفة جداً. وها هو صوتها حاضر الآن في “الروزانا”. كذلك فإن مشروعي الموسيقي المقبل سيتضمن أغاني جديدة مكتوبة لصوتها.
– استخدمتَ آلات موسيقية من الشرق والغرب في كل أعمال الألبوم، ما الذي كسبتْه الأغاني من تلك الآلات، سواء السويسرية أو العربية؟
* المكسب الموسيقي الكبير هو اللون والرنين الصوتي الآلي الجديد الناتج عن اجتماع آلات موسيقية من ثقافتين مختلفتين، إضافة إلى اللون الفردي والخاص لكل آلة. هذا المناخ الصوتي الآلي المكتوب والمتعدد المستويات أعطى لتلك الأغاني أبعاداً لونية وجمالية جديدة وغير معتادة، ساعدت على كسر حالة الاعتياد في سماعها، وبالتالي إعادة إحياء الرغبة في استكشافها من جديد وكأنها أغنية جديدة تُسمع للمرة الأولى، مع أن هذا المناخ الصوتي الآلي الجديد قد حمل أحياناً بعداً صدامياً ومفاجئاً لأذن المتلقي، كما هو الحال في طريقة الكتابة لآلة العود في الأغاني السويسرية وحتى الشرقية. في المقابل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن كيفية استخدام الآلة السويسرية (الألب هورن) والكتابة لها في أغنية “الروزانا” أعطاها بعداً مشهدياً لونياً مختلفاً عن الحالة العاطفية الحسية والطربية التي اعتادت أذن المستمع العربي وربما الغربي على سماعها..
– صُنّفت “الروزانا”، الأغنية التي حمل الألبوم اسمها، من ضمن أفضل النتاجات من موسيقي العالم في سويسرا للعام 2018. واضح أنك عدت لواقعة تاريخية يعدّها البعض سبباً لظهور الأغنية، فنحن نسمع في اللحن صوت الماء، وصافرة السفينة، وضجيج الميناء. أود لو نتحدث عن هذا العمل كنموذج للطريقة التي اشتغلت بها على أغنية معروفة؟
* لكل أغنية في الألبوم أسلوب معالجة موسيقية وطريقة عمل. في معظم الأغاني كان للّحن دور كبير في خلق المناخ الصوتي المرافق، وكذلك المقدمات الموسيقية. لكن النص لعب أيضاً دوراً في استلهام هذا المناخ.
في اشتغالي على المعالجة الموسيقية للألحان الشعبية أحاول ابتكار الأسلوب من طبيعة اللحن نفسه بعيداً من التراكيب الجاهزة الغربية أو الشرقية. أجد أن كل لحن شعبي يحمل بداخله طاقته التفاعلية، يحمل تطوره وتحولاته وبالتالي مستقبله، وهنا تكمن بالتحديد مهمة المؤلف الموسيقي، في سماع و إيجاد هذا الكامن
أجد أن كل لحن شعبي يحمل بداخله طاقته التفاعلية، يحمل تطوره وتحولاته وبالتالي مستقبله، وهنا تكمن بالتحديد مهمة المؤلف الموسيقي، في سماع و إيجاد هذا الكامن
بالنسبة إلى “الروزانا” اعتمدت في معالجتها على إحدى القصص التاريخية (غير مؤكدة) التي تقول إن الاسم هو لسفينة إيطالية انتظرها أهل بلاد الشام في إحدى الأزمات، على أمل أنها محملة بالطعام والمؤونة، إلا أن الخيبة كانت كبيرة بأنها كانت محملة فقط بالفاكهة. أذكر بأني عندما كنت أعمل على هذه الأغنية كانت مدينة حلب تُقصف وحيدة وأمام مرأى العالم، وكنت أردد في نفسي: نعم إن الخيبة ما زالت مستمرة. إذاً، فما قمت به من كتابة موسيقية لهذه الأغنية يحمل هذا البعد المشهدي لقصتها التاريخية، من المقدمة الموسيقية التي تحاكي حركة انطلاق السفينة، إلى صوت بوق السفينة من خلال آلة الألب هورن السويسرية، الى حركة طيران النوارس (آلة الشفيتزرأورغلي أو الأكورديون السويسري) وصولاً إلى سير السفينة في الماء الذي تم التعبير عنه من خلال المرافقة الإيقاعية التي تحاكي الدبكة الشعبية التي هي إحدى أشهر أنواع الرقص الشعبي في بلاد الشام.