“روما”.. انتصار لنساء وحيدات

66
تحمل خادمة هندية-مكسيكية (من سكان المكسيك الأصليين)، بطلة فيلم “روما”، على كاهلها عبء مواجهات وصراعات عديدة، الصراع الطبقي، السلطة السياسية، السلطة الذكورية،.. ولعل الفيلم يحمل، في خلفية ذلك كله، هذه المفارقة الحزينة حيث سكان البلاد الأصليون يعملون كخدم في بيوت الوافدين (بحثَ المخرج طويلاً حتى وصل إلى بطلته التي لم تكن ممثلة في الأساس).
 

ظاهر الفيلم (إنتاج العام 2018 وحاز أخيراً جائزة غولدن غلوب 2019 لأفضل مخرج وأفضل فيلم بلغة أجنبية، إضافة إلى عدد من الجوائز السينمائية والتلفزيونية في 2018 و2019)، حكاية خادمة تعمل لدى أسرة في حي يحمل اسم “روما” في مكسيكو سيتي، وهو الحي الذي نشأ فيه المخرج ألفونسو كوارون، وبالتالي يعتبر الفيلم جزءاً من السيرة الذاتية لمخرجه). تعيش قصة حب عابر مع شاب سيتخلى عنها ويهرب فور اعترافها له بأنها حامل منه. عند عثورها عليه مجدداً سينكر أبوّته للجنين، مهدداً، ومحذراً بأن عليها الامتناع عن قول ذلك مجدداً.

وفي وقت كانت الخادمة “كليو”، تتوقع من سيدة المنزل أن تطردها حين تعترف لها بحملها، فقد وجدت تضامناً وتعاطفاً ورعاية من السيدة. والحق إن الأخيرة صدى لحكاية خادمتها، إذ تعيش أيضاً قصة إهمال وخداع الزوج. لا يُخفى التضامن النسائي على مدار فيلم يكاد يقتصر الحضور فيه على النساء. سنرى تالياً تضامن ورعاية الجدة في تلك الأسرة، مع الخادمة، في أكثر من مشهد.

ومع أن الخادمة “كليو” تظهر في منتهى الهدوء والصبر وقلة الكلام (تلك المواصفات التي لم تكن مجرد خيار على مستوى أداء الممثل، بل هي المواصفات التي أراد المخرج أن يسبغها على صورة المرأة عموماً)، إلا أن تفاصيل الصورة إلى جانب الشريط الصوتي قالت الكثير من دون إسهاب في الحوار المنطوق.

الرجل هنا، في قصة الخادمة “كليو”، ليس فقط ذلك الهارب من مسؤوليته، سنفاجأ لاحقاً بأنه جزء من السلطة المستبدة التي تحكم البلاد. ستشهد الخادمة في طريقها مع الجدة لاختيار سرير للوليد القادم تحضيرات لتظاهرة ضد السلطة (الأحداث تجري في العام 1971 )، وبينما تقوم باختيار السرير في متجر، سنسمع ونرى ضجيج التظاهرة وصراخها، وهروب المتظاهرين في مقابل إطلاق الرصاص الحيّ. سيدخل بعض الهاربين إلى المتجر، يطاردهم رجال السلطة المسلحون، وسيكون من بينهم رجل كليو الهارب، والد جنينها، شاهراً سلاحه في وجهها باحثاً عن متظاهر ليقتله. إنها لحظات مرعبة وصادمة للخادمة كليو، تدفعها إلى مخاض مبكر، لكنها تصل متأخرة إلى المشفى بسبب زحام وفوضى المواجهات، وهناك ستنجب طفلة ميتة.

سيدة المنزل بدورها، حين تكتشف خداع زوجها ستقرر إخبار أطفالها بالحقيقة وبأنهما مقبلان على الطلاق. عندما قررت في مشهد سابق، قالت لخادمتها تلك العبارة التي أرادها الفيلم خلاصة: “مهما قالوا لك، نبقى، نحن النساء، وحيدات”.

تبدو السيدة سعيدة بقرارها واختيارها، تقرر شراء سيارة صغيرة، غير تلك الضخمة التي للزوج، وباتت كناية عنه، إن لم نقل كناية عن السلطة الذكورية. فسيارة الزوج ضخمة، قديمة، تصدح من مذياعها الموسيقى الكلاسيكية الصارمة، بل إن الكاميرا تركز في لقطة مقربة على لوغو السيارة الذي يحمل رسم تاج ملكي (ليس هناك أوضح منه رمزاً للسلطة).. وما يعزز هذا الاستنتاج أن الظهور الأخير للسيارة بعد رحلة وداعية، سيصادف مرور فرقة الكشافة التي تعزف مارشاً عسكرياً. الفرقة نفسها سبق أن شاهدناها أثناء مغادرة الزوج المنزل نهائياً.


نحن إذاً أمام ترميزات عديدة للسلطة الذكورية، لا يناقشها الفيلم صراحة في حوار بين الشخصيات، إنما تقع كلها بين ثنايا الصور. ولعل أهمية الفيلم في أنه قال كل ما يريد بالصور والإيحاءات من دون إسهاب في الكلام. لنلاحظ هذا المشهد لشجار عابر بين أطفال المنزل، ولدٌ استلَّ لنفسه من ثلاجة المنزل قطعة حلوى، تنازعه أخته عليها، أو تطلب منه قطعة لنفسها، لا يقبل إلا حين تعده الجدة بعلبة كاملة، عندها فقط سيعطيها قطعة، مع عبارة وصائية: “خذي، زيدي سُمنة”. إنه مشهد سريع، لكن لا يمكن أن يكون قد ألقي من دون معنى أو توظيف.

نساء الفيلم يعبّر عنهن بحبل غسيل (نسائي) على السطوح تمرّ عليه الكاميرا بإسهاب، أغنية معاصرة في السيارة الصغيرة الجديدة لسيدة المنزل، ميل النساء الفطري للتضامن مع النساء، وهذا المشهد في نزهة في الطبيعة، إذ يسأل رجل “ألا تطلق النساء النار”، فيأتي الجواب بإجماع نسائي “لا لا”، سوى سيدة أميركية من بين المتنزهين، وحدها حاولت إطلاق النار.

تحمل شارة البداية في فيلم “روما”، فيلماً موازياً يحاول أن يحكي حكاية بصرية: ملء الشاشة، سنشاهد بلاطات الأرضية القديمة التي يغلب عليها لون الأسمنت (سنتعرف فيها لاحقاً بلاط ممر بيت العائلة التي تعمل الخادمة لديها)، بعد قليل سنسمع صوت حذاء الخادمة، ثم تتدفق المياه فوق البلاط، ثم الصابون، حينها فقط سيعكس ماء الأرضية صورة نافذة تمر منها طائرة تحلّق. يستمر غسل الأرضية مع مياه أكثر، مع أصوات الشطف التي باتت أقرب إلى هدير الموج.

هذا الممر سيشهد على الدوام، أثناء الفيلم، وبصورة مكررة بلا هوادة، براز كلب العائلة، هنا وهناك، الأمر الذي كان يزعج الزوج، ويجعل سيدة المنزل حريصة دائماً على إرضائه بإعطاء الأوامر بتنظيفه.

في المشهد الأخير، بعد قرار السيدة التخلي عن زوجها وانتهاء حكاية حمل الخادمة، وبعد أن يعود الجميع إلى المنزل الحميم، ستصعد الخادمة “كليو” درجاً عالياً (كأنما سلم إلى السماء) تحمل الغسيل إلى السطوح، وعندما تصل إلى درجاته الأخيرة ستعبر طائرة تحلق كما في شارة البداية.

في فيلم “روما” هناك دائماً هذا التشابك بين السلطة الذكورية والاستبداد السياسي والعسكري، ما يأخذ الفيلم أبعد من حكاية الخادمة والحمل المفاجئ.


 
 
 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here