لم يُحسب محمد الماغوط، الشاعر السوري الكبير، مرة في عداد كتّاب المسرح، إذ إن مسرحياته الغاضبة، مثلما قصائده، هي مطولات شعرية مكتوبة بصيغة الحوار المسرحي، وهذا ليس كافياً ليضعها في عداد المسرح. وهي ليست كثيرة على أي حال: “العصفور الأحدب” و”المهرج” وقد نُشرتا في الستينيات، و”خارج السرب” التي أخرجها جهاد سعد منذ سنوات ومُنيت بفشل ذريع، قبل أن تظهر في كتاب مطبوع. أما تجربته مع دريد لحام فمعروف أن الشاعر ظلّ يتنكر لها، ولعل عدم ظهورها في كتب مطبوعة يشكل موقفاً نقدياً منها، والتجربة كانت كفيلة على الدوام بإشعال معارك صحفية حامية بين الرجلين، مع أننا نرجح أن الخاسر الأكبر في تلك التجربة المشتركة هو دريد لحام الذي فقد عفويته وروحه الأقرب إلى هموم الحارة الشامية، ليؤخذ إلى حقل ليس له، حين أخذه الماغوط إلى السياسة وهموم الوطن الكبير.
في “قيام جلوس سكوت”، وهو عنوان يعتمد أفعال الأمر المعتَمدة في المدارس الرسمية، لم نتعرف على الماغوط سوى في ثلاث شخصيات عهدناها مراراً في مسرحياته؛ الشاعر، وهو غالباً ما يبدو معادلاً لشخصية الماغوط نفسه، وحبيبته، والمخبر أو المسؤول الحكومي. أما في باقي العمل فلم نستطع التعرف على الماغوط، بل لم نتعرف على أي صنف إبداعي، مسرحاً كان أم شعراً. والحق أنه قد يكون من المضحك أي محاولة لقراءة العمل نقدياً كما يجري تناول عمل مسرحي، فلا شيء يستحق الاهتمام هنا سوى اسم الماغوط، ومضمون العمل، الذي ينصب على تناول ما يسمى الأزمة في العلاقات اللبنانية السورية، ولو أن العمل يحاول اقتفاء مسرحيات دريد لحام، بل أكثر ما في تلك المسرحيات من رداءة: الوطنية الفاقعة مع أثر واضح لنبرة ميلودرامية، الخطابة، والأغنيات المحشورة هنا وهناك.
دعوة لكراهية اللبنانيين
يحكي العمل عن شاعر اسمه عرب (أدّاه زهير عبد الكريم) في منزله المفتوح للجميع، إلى حد أن الديكور (لنعمان جود) يخلط بين كونه منزلاً أو رصيفاً، مع حبيبته يمامة (لعبتها ديمة قندلفت)، والعلاقة بينهما تشبه علاقة شاعر بصحفية، إذ كل ما تفعله هذه هو أن تتيح لنا الاستماع إلى أقواله وتعليقاته ومواقفه وقفشاته. هذا إلى جانب ممثلين عابرين يؤدي أحدهم دور مخبر، أو شاعر عابر، أو فلاح أو متشرد. القفشات التي يتناوب الممثلون على افتعالها تبدأ من سؤال يطرحه صحفيون على الشاعر في مؤتمر صحفي: “هل ورد اسمك في تقرير ميليس؟”، ليؤكد العمل من ثم على لسان الشاعر الذي يقسم عشرات الأيمان بأن “ديتلف بن ميليس كتب التقرير قبل الفاجعة بعام كامل”، إلى قوله أيضاً: “إذا أردت أن تدخن سيجارة ولم تجد عود ثقاب أحرق وطناً بكامله. التوقيع: القاضي الألماني ديتلف ميليس”. وتطرقت المسرحية بالسخرية إلى أسماء شخصيات لبنانية مثل أحمد فتفت، ووليد عيدو، وفؤاد السنيورة، والياس عطا الله. قبل أن يجري الحوار التالي بين الشاعر وشخصية عابرة: “خالتي طلع لها كتلة خبيثة”، فيجيب الشاعر: “لعلها كتلة المستقبل”. وفي واحدة من نشرات الأخبار التي لا تهتم إلا بأخبار معاقبة سوريا وحصارها وكثافة الوجود العسكري الأميركي على الحدود العراقية السورية، أو بخبر رفض شارون إعادة الجولان السوري، يجري استخدام الفواصل الموسيقية لنشرة أخبار تلفزيون “المستقبل”، وبالطبع لو كان ذلك صحيحاَ لما عجز المخرج عن تسجيل نشرة أخبار “المستقبل” بأصوات مذيعيها الأصليين، فالنشرة جاءتنا صوتاً لا تمثيلاً على الخشبة.
وهكذا لتصل المسرحية إلى وليد جنبلاط و”الكومبارس التقدمي الاشتراكي”، وحين تُسأل امرأة إذا كانت تعرف من المقصود، تجيب بالقول: “مو هادا تبع فليرحلوا عنّا؟”. ولم تنس المسرحية أن تتطرق إلى “ناكري الجميل” في لبنان والعراق، و”الطعنات التي جاءت كلها من حلفاء الأمس، الذين انقلبوا اليوم، كأقطاب المعارضة العراقية الذين تربوا في دمشق منذ العام 1968 ثم راحوا يحرضون علينا، وكذلك أبطال السيادة والاستقلال”. هذه الإشارة إلى “الرابطة الأميركية” بين ما يجري في لبنان والعراق تجيء ثانية على لسان إحدى الشخصيات: “عاشت الحرية الأميركية بقيادة كوندوليزا رايس في سجن أبو غريب. التوقيع: جبران تويني”. وقد جرى مراراً وتكراراً تقديم شعارات “الحرية والسيادة والاستقلال” و”بدنا الحقيقة” بشكل ساخر، ودائماً بلهجة لبنانية متهكمة. ولم تأت المسرحية بجديد عن نشرات أخبار الفضائيات وهي تحاجج في المعايير الدولية المزدوجة وعدم معاقبة إسرائيل التي اغتالت الشيخ أحمد ياسين.
لا يشكل العمل سوى دعوة لكراهية اللبنانيين، مستثنياً فقط وبالاسم، الجنوب وحسن نصر الله، فلا ندري لمصلحة من ولماذا هذا الشحن والتحريض على الكراهية، ولنتذكر أن في الجهة الأخرى واحداً مثل سمير قصير، الفلسطيني السوري اللبناني، الذي قال عنه صقر أبو فخر إنه واحد من أربعة دوّخوا اللوبي الإسرائيلي في فرنسا، والذي كتب محمود درويش مقالاً رائعاً في مديحه، أم أن مقدار الكراهية سيدفع أيضاً إلى كراهية درويش؟
وطنية مضادة
إن الخطورة في ما تقوله المسرحية، ليست في القول ذاته، فهذا يمكن اعتباره رأياً نناقشه ونجادل فيه، بل في سوق هذا القول في إطار إكراهي، قول يساق وكأنه نوع من الوطنية السورية المستنهضة حديثاً، ونستغرب حقاً أن تستنهض هذه الوطنية خصيصاً لمواجهة الأشقاء، وللسخرية مراراً من “العلاقات المميزة”. فقد كانت الأغنيات الوطنية مرافقة للعرض، الذي اختتم برفع الأعلام السورية، وبالنشيد الوطني، فمن يجرؤ إذاً على البقاء جالساً في مكانه، أو على مواجهة المسرحية باستخفاف؟ لكن الإكراه يجيء قبل ذلك من التلطي خلف أسماء ثقافية سورية لها احترامها في الشارع السوري، كما لو أنها موافقة على ما قيل، من ذكر أدونيس، الشاعر الذي، حسب العرض، لم ينسحب بعد من بيروت، وزكريا تامر، وممدوح عدوان. كذلك يرفق العرض بنبرة انتقادية للفساد ومطالبة بالإصلاح، وكأن ذلك هو الطعم الذي سيوقع المتفرج في الشرك. ولذلك يأتي العرض على ذكر إغلاق صحيفة “الدومري”، و”المبكي”، ومنتدى الأتاسي. ثم لن ننسى الخطاب المتفجع الذي يدعو الناس ويستعطفهم للتنبه إلى خطر الذئاب، وإلى ضرورة تقوية اللحمة الوطنية، والمتفجع أيضاً على “سوا ربينا” التي تحولت إلى “لا إنت حبيبي ولا ربينا سوا”. وللمناسبة فإن معد المسرحية للعرض (محمود عبد الكريم) هو ذاته معد البرنامج التلفزيوني المعروف “سوا ربينا”. أما مخرج العرض فهو زهير عبد الكريم، الممثل المحظوظ بأن نشرات أخبار الفضائيات أعادت مراراً وتكراراً، بالمصادفة، صورته معانقاً رستم غزالي عند استقباله على الحدود اللبنانية السورية.
راشد عيسى
“السفير”
15/11/2005
(دمشق)