يعتبر إصدار الكاتب الراحل بوعلي ياسين، والروائي والناشر نبيل سليمان كتابهما «الأدب والأيديولوجيا في سوريا» واقعة مهمة في تاريخ الأدب في سوريا. لقد قام الكاتبان بجهد بحثي مرموق، عبر قراءة عدد كبير من الأعمال الأدبية لكتاب سوريين، كما قاما بتبويب وتصنيف أنواع النقد الأدبي في سوريا، ثم قاما بتطبيق منهاجهما الماركسي الخاص في نقد مجموعة ممثلة من تلك النصوص الصادرة بين عامي 1967 و1973.
استخدم ياسين وسليمان عدة نظرية أيديولوجية ناجزة ومكتفية بذاتها بشكل، حوّل عملهما إلى جهاز لإصدار أحكام تقوم بفرز طبقات الأدب والأدباء، حسب نواظم أيديولوجية سياسية، بحيث يهبط الأدباء الرجعيون (من «شواهد المجتمع القديم» كعبد السلام العجيلي وألفة الأدلبي، على حد تعبير الكاتبين)، والليبراليون الرأسماليون (مثل نزار قباني وغادة السمان)، والبورجوازيون الصغار المضللون (كزكريا تامر وعلي الجندي وممدوح عدوان وسلسلة طويلة غيرهم) إلى جهنم الأدب الخسيس (المعادي للتقدم)، في ما تقرظ الفئة المبشرة بجنة الماركسية ممن تنطبق عليهم شروط الكاتبين، (كحال حنا مينه وعبد الله عبد وسعد الله ونوس) ويصعّد أدباؤها التقدميون إلى قمة الأدب العظيم.
رغم صدور الكتاب في المرحلة الزمنية المذكورة، ورغم التطورات التاريخية الكبرى لاحقا في سوريا والعالم، فإن مناقشة الكتاب ما تزال مهمة لعدة أسباب، منها أن المنظومة الفكرية التي صدرت عنه ما تزال مؤثرة وفاعلة، رغم أنها لبست أثوابا جديدة وغيرت الرطانة الأيديولوجية التي تستخدمها، وصار ممكنا، في الرطانة هذه، وضع دول دينية كإيران وميليشيات مثل «حزب الله»، ضمن قوى «التقدم»، بينما كان ذلك خارج المفكر فيه.
مثير للتفكر هنا أن الكاتبين أعادا نشر الكتاب وكتابة مقدمة له عام 1985، أي قبل سنوات قليلة من سقوط جدار برلين والمعسكر الاشتراكي، وانتهاء الاتحاد السوفييتي، وانكسار الأحزاب الشيوعية في العالم، أي أنهما غفلا أو تجاهلا عما يحدث من انهيار في الأيديولوجيا التي يرتكزان عليها. السبب المهم الآخر هو أن الثورة السورية المندلعة عام 2011 ساهمت بقوة في نقد المنظومة السياسية للنظام وتاريخه وخلخلت أركانها، لكن مهمة أكبر وشديدة الأهمية، لم يتم استكمالها بعد وهو نقد وتفكيك المنظومة الفكرية والثقافية والتاريخية للنظام.
لقد حصلت تطورات كبيرة في الأدب السوري، قدمت قراءات مختلفة للأحداث اللاحقة بالثورة، ولكن الذي لم يحصل هو قيام مراجعة لما تعرض له التاريخ الأدبي لسوريا، من تهشيم وتهميش وإعادة تموضع، وكان كتاب «الأدب والأيديولوجيا في سوريا» أحد أمثلة هذا التهشيم، ولعل أخطر ما في هذا الموضوع هو أن آليات تصعيد أدباء وتهشيم آخرين على أسس أيديولوجية كانت، في اعتقادي، جزءا من عملية فرض لرؤية فكرية موائمة لمنظومة السلطة الانقلابية في سوريا، وبطريقة لا تقل عنفا وقسوة عن تلك المنظومة السلطوية.
تساهم رؤية هذه العلاقة بين المنظومة السياسية، والموقف الأيديولوجي من الأدب السابق عليها، أو المعادي لها في تعميق رؤيتنا لمفهوم «النظام»، وتسمح لنا برؤية عناصر قوة أخرى في هذا «النظام» تتجاوز العتاد العسكري والأجهزة الأمنية إلى المظلة الفكرية التي أمنت، وما تزال، أسباب قوة هائلة لتلك المنظومة، وهو ما تفسره العلاقة الحميمة لطيف واسع من اليساريين العرب، والغربيين مع النظام السوري والأنظمة الديكتاتورية بشكل عام، فيما تشرح طبيعة هذه المنظومة الاستبدادية، من جهة أخرى، أسباب التقارب في المواقف السياسية بين اليساريين والفاشيين، وكذلك وجود طيف من الإسلاميين ضمن هذا الحلف العابر للأيديولوجيات والمؤيد للاستبداد.
مهم أيضا، في هذا السياق، إعادة الاعتبار للأدب خارج الأيديولوجيا، والتأكيد على معانيه الحقيقية ضمن علم الجمال، وكذا إعادة الاعتبار إلى كونه تعبيرا إبداعيا عن الواقع، ضمن سياقاته الخاصة، وعن الشرط البشري والوجود الإنساني بتعقيداته الهائلة (وليس عتلة دعائية لأي أيديولوجيا).
يمتد طموح المقالة لبحث قضايا أخرى قد لا يتسع لها المجال هنا، ومنها كشف الطابع السلفي (وحتى السحري) لمنظومة أفكار مستمرة، يشكل الكتاب جزءا منها، والتي تتقنع بأفكار التقدم والعلم لكنها، في عمقها، تقوم على استخدام سحري للطقوس والرموز والكلمات مثل ترديد كلمات بعينها (التقدم، الاشتراكية العلمية الخ) باعتبارها حلولا جاهزة تطبقها «الطليعة الثورية» فتحل قضايا المجتمع «المتخلف» ويتم القضاء على «الرجعية».
فرغم اجتهاد تلك الأطروحات في نقد المجتمعات «المتخلفة» و»الرجعية» تلك، فإنها، من حيث النتيجة، لا تختلف عن موضوعاتها التي تنتقدها في طابعها الديني والسلفي في طريقة فهمها وممارستها للأيديولوجيا التي تتبناها، فكما يعود السلفيون، من كافة الأديان، إلى زمن ومكان مقدسين، فكذلك يحضر في أطروحات الكاتبين وأمثالهما من الأيديولوجيين الماركسيين ذلك الحج الدائم إلى زمن يستعيد الثورة البلشفية في روسيا، وكما حول الشيوعيون الروس لينين وستالين إلى أيقونات دينية، فقد فعل مثقفو الماركسية العرب، لكن فيما كان الفلاحون الروس يموتون جوعا، وينحط النظام الاشتراكي إلى وهدة استبداد فظيع، ويبدأ بالتفكك الطويل الأمد، ظل الماركسيون العرب، مثل السلفيين العرب، على ولائهم للصورة الذهبية للمجتمع «الاشتراكي العلمي»، ولطروحات المثقفين الروس خلال الثورة، رغم أن أغلبهم قتلوا خلال حملات التطهير الستالينية!
حسب ياسين وسليمان فإن الموقف من كتابهما كان «شكلا ثقافيا للصراع الطبقي بين اليمين واليسار، بين الرجعية والتقدم، بين الاستغلاليين والشغيلة»، والحقيقة أن مواقف الكتاب، بغض النظر عن اختلافاتها، كانت فعلا «شكلا ثقافيا للصراع» ولكن ليس بين اليمين واليسار، الرجعية والتقدم، والاستغلاليين والشغيلة، ولكن بين الفهم الدوغمائي للأدب، والتأطير الأيديولوجي له، والمعنى الحقيقي للأدب بمقاييس المعرفة الإنسانية وعلوم الجمال والنقد الأدبي. في «الأدب والأيديولوجيا في سوريا» صنع الكاتبان أمثولة كبرى لتهافت النقد الدوغمائي، وإذا كان مقبولا، ومفيدا، من الناحية النظرية، إجراء قراءات للأدب من مناظير متعددة، الماركسية والأدب في هذه الحالة، فإن النتيجة، كانت سيئة بشكل كبير، لأن الباحثين قدما فهما بائسا وكيتشيا وسطحيا للماركسية نفسها، أضاف إلى إساءة الفهم الأصلية للأدب نفسه.
تشتبك الأعمال الأدبية، بالتأكيد، مع أشكال الصراع الاجتماعي والسياسي، لكن الأدب العظيم في تصويره لهذه الصراعات يعطيها طابعا عابرا للزمن ويحولها إلى جزء من التراث المحلي والعالمي للأدب والمعرفة الإنسانيين، وإذا كانت قراءة هذه النصوص تعطي مجالا لفهم العالم الذي تصوره، فإن تأويلها أيديولوجيا يحولها الى هياكل عظمية ويخرطها في سياقات تسيء إليها وتمنع فهمها.
وبالنسبة لكاتبين راديكاليين ونقديين، كما يفترض، يختفي أي نقد لدور السلطة العسكرية الأمنية، التي كانت، وما تزال تحكم سوريا، في الهزيمة، ويتم توجيه السياط إلى «التخلف» (الاسم الحركي للإسلام)، و»الطبقة الإقطاعية الرأسمالية» (التي يفترض أن العسكر الثوريين قاموا بإزالتها من سدة السلطة عام 1963)، ويقتصر نقد سلطة صلاح جديد وحافظ الأسد الحاكمة على «قصورها وانحرافها» (عن الفكر الاشتراكي العلمي طبعا).
يتضح موقف الكاتبين من النظام السوري في أكثر من مكان في الكتاب، فيتبدى مثلا في ذكرهما لأسباب هزيمة 1967 وهي حسب قولهما: تخلف المجتمع العربي، وعمالة الطبقة الاقطاعية الرأسمالية العربية، وقصور وانحراف بورجوازية الدولة، وضعف الحركة الشعبية الديمقراطية، وبذلك تغيب مسؤولية السلطة العسكرية الأمنية وتصبح «انحرافا لبورجوازية الدولة» فيما يتحمل «المجتمع العربي» مسؤولية بسبب «تخلفه»، كما تتحمل «الطبقة الإقطاعية الرأسمالية» نصيبها بسبب عمالتها.
قدم الكاتبان الأدب باعتباره معمارا هندسيا يجب على الأدباء بناؤه ليتواءم مع الأيديولوجية التي يؤمنان بها، وهو تعريف ينفي عمليا الطابع الإبداعي واللاشعوري في الأدب ويجعله أطروحة أيديولوجية، وفي تلك الأطروحة يصف الكاتبان أدب الرجعيين والبورجوازيين المنحط بـ»أزهار المزابل» التي يجب «سحقها»، على حد قولهما، أما الأدب العظيم فهو الذي تحققت فيه الشروط التي اشترطاها أي أن يكون هذا الأدب في خدمة الطبقة العاملة، لا الرجعيين المتخلفين والامبرياليين الغزاة.
“القدس العربي”
15 – نوفمبر – 2019