سينما الخصوم: إبداع الرقابة

4

 صحيح أن الرقابة على الفن والإبداع تدعو للرثاء والأسف، خصوصاً لجهود مبدعين قضوا حياتهم منشغلين بإبداع التحايل على الرقابة، بدلاً من التفكير في إبداع فنون تأخذ المكانة التي تستحق، لكن الرقابة تدعو أيضاً إلى الضحك، كما أمام فيلم “A Cinema of Discontent” )سينما الخصوم) للإيراني جمشيد أكرمي، وهو فيلم تسجيلي (86 دقيقة) يرصد صورة الرقابة في الأفلام السينمائية الروائية الإيرانية على مدى العقود الفائتة.

جهد كبير يبذله السينمائي والأكاديمي أكرمي، الإيراني المقيم في الولايات المتحدة، لتوثيق تطبيقات قوانين الرقابة بمشاهد سينمائية، وهو إلى جانب ذلك يستضيف مخرجين ومنتجين وكتاباً سينمائيين عملوا في إطار هذه السينما من أمثال جعفر بناهي، أصغر فرهادي، بهمن غوبادي، باباك بيامي، كمال تبريزي، وسواهم. أولئك الذين أصبحوا شهود الفيلم على هذه الحقبة الإبداعية المعتمة.

الفيلم (الذي عرض أخيراً ضمن تظاهرة أفلام الشرق الأوسط في باريس) يتحدث أولاً عن الحجاب فيسخر من انصياع الأفلام لتوجيهات الرقيب، التي تطاول حجاب المرأة في غرفة نومها، فتظهر ممددة على السرير، على مسافة من زوجها، “مصفحة” بالحجاب. أو أنها تظهر وهي تجفف شعرها بالسيشوار لكن في من وراء الحجاب، وهنا يسخر أكرمي في فيلمه، مستخدماً الرسوم المتحركة، حين يصور امرأة تحت “الدوش” مصرّة على ارتداء الحجاب.

ثم يسوق الفيلم أمثلة أخرى عن الملامسة الجسدية بين الجنسين، فهما حتى لو كانا يمثلان دوري زوجين، لا ينبغي أن يصافح أحدهما الآخر. حتى لو كان الأمر على سبيل صفع أحدهما للآخر، ينبغي له أن يتحايل على تلك الملامسة الضرورية بالضرب بأشياء وسيطة، كتاب، أو حقيبة، أو غيرهما. من بين المشاهد التي عرضها الفيلم، واحد يصوّر رجلاً يمدّ يده لامرأة عبر النافذة، يتردّد، ثم يستدرك بأن يجعل كمّ قمصيه عازلاً بين اليدين. وإذا كان الأمر كذلك مع الحجاب والمصافحة فلا شك أن لشؤون الجنس والمغازلة الأولوية لدى الرقيب.

إن مشهد وداع بين زوجين يمكن حلّه بتلصّص الكاميرا على أحذيتهما وهما يتراقصان، ثم على ما يبدو تأخذهما النشوة أبعد قليلاً، يتباطأ

الرقص قليلاً، تتطاول أصابع القدمين، لكن الحافلة على أهبة الرحيل، لا بد إذاً أن ينتهي المشهد.

أما العاشقان اللذان كانا يتراكضان سعيدين فوق الثلج فلا بدّ من وجود المسافة بينهما، وإذا ارتفعت درجة الحرارة قليلاً فما على الكاميرا إلا أن تبحث عن أي كائنين حيوانيين قريبين لتستعير منهما صور اللطف والدفء الغامر تعبّر خلالها عن مكنونات كائنين بشريين عاشقين.

لقد وصل الأمر بأحد الأفلام أن يصور شاباً وفتاة، حين أرادا أن يصعدا معاً على الدراجة النارية، أن يضعا بينهما حاجزاً هو عبارة عن صندوق خشبي. تقول لنفسك أما كان يمكن الاستغناء عن مشهد كهذا إذا كانت الرقابة ستحوله إلى مهزلة فاضحة إلى هذا الحد؟ لكن ما يخطر على البال حينها أن السينما وهي تفعل ذلك، وإن لم تقصد، إنما تمدّ للرقابة لسان السخرية، فلا يمكن أن تنحدر السينما ومعها الفن إلى أكثر من ذلك.

ربما احتجنا نحن، السوريين، إلى فيلم مشابه يوثق ما فعلت الرقابة الإيرانية بأعمالنا السينمائية والتلفزيونية، وربما غيرها من أشكال إبداعية أو سواها قد تكشفها الأيام. لقد حدث ذلك بالفعل، وصودف أن كنت شاهداً على تدخل رقيب من “حزب الله” في عمل تلفزيوني سوري، يبدو أن للحزب يداً في إنتاجه. كانت يد الرقيب فوق يد المخرج، كلما فلت شيء من الثياب أمر برفعها، وبالطبع فإن الرقابة هنا يحق لها أن تطاول كل شيء، من الثياب، إلى لغة الكاتب غير المنضبط في أحايين كثيرة. كان المخرج باسل الخطيب، حينذاك، يصور مسلسل “عائد إلى حيفا”، عن رواية غسان كنفاني، التي تتناول زمنين مختلفين، العام 1967، وسنوات النكبة الفلسطينية. في النتيجة كان على الدراما التلفزيونية أن تقدم المجتمع الفلسطيني آنذاك كما تريده وتتمنّاه، مخيلة أخرى بعيدة من هذا المجتمع. لقد حدث الأمر ذاته حين صوّر الإيرانيون الرواية نفسها في الفيلم السينمائي “المتبقي”. وبالطبع كان الرقيب هو الرقيب. ولم يتضح بعد كيف يمكن لإبداع أن ينتعش في ظل التقاطع الشائك للرقابات، اللهم إلا لإنتاج كوميديا مضمرة، أو فيلم على طريقة “سينما الخصوم”.

“المدن”

19/12/2013

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here