ثماني عشرة بقرة تدوّخ الاحتلال

4

 

يصعب أن يصدق المرء أن حكومة من وزن وجبروت حكومة إسرائيل يمكن أن تضع رأسها برؤوس ثماني عشرة بقرة، تطاردها من بيت لبيت، وتقتفي أثرها، بل تصدر أمراً عبر حاكمها العسكري، يقضي بأن ثماني عشرة بقرة يشكلن تهديداً لأمن إسرائيل. لكن ذلك حدث بالفعل، وهذا ما يجهد فيلم “المطلوبون الـ ١٨” في تسجيله.  

 

تبدأ حكاية الفيلم (٧٥ دقيقة) حين يقع كتاب “كوميك” (رسوم تحكي قصة) بيد ولد فلسطيني من مخيم اليرموك، فيه سيعثر الولد على حكاية البقرات التي اشتريت من كيبوتس إسرائيلي في خضمّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى (١٩٨٧)، لتنقل إلى بلدة بيت ساحور، هناك حيث لا أحد من أبناء البلدة خاض من قبل في شؤون البقر وتربيتها وحلبها، لكنه قرار المنتفضين بالعصيان المدني، الذي دفع الناس إلى إحراق الهويات التي يمنحها الجيش الإسرائيلي، وعدم دفع الضرائب، وإلى التحول إلى الزراعة المنزلية وتربية الدواجن من أجل الاكتفاء الذاتي ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية.

الولد كان عامر شوملي (1981)، الذي يتحدّر أساساً من البلدة نفسها بيت ساحور، وهو سيعود إليها شاباً ليسأل عن حكاية الأبقار، ويعمد إلى استعادتها في فيلم تسجيلي (يشارك شوملي بالإخراج الكندي بول كاون) بعد حوالي عشرين عاماً على انقضائها.

 

يفعل الفيلم كل ما بوسعه لاستعادة مشهد بيت ساحور أيام الانتفاضة. يلتقي الشخصيات التي كانت طرفاً في حكاية البقرات، يعيد تمثيل مشاهد الحدث، ومن أجل ذلك يستعين ببعض أقارب الشخصيات ممن لهم شبه بهم ليعيدوا تمثيل الأدوار، كما يرفد الفيلم بمشاهد توثيقية بعضها موجود في أرشيف التلفزيونات، وبعضها في بيوت أهل البلدة، ويستعين برسوم ثابتة كاريكاتيرية، كما لو أننا نعود إلى كتاب “الكوميك” نفسه الذي استقى منه شوملي خبر الحكاية.

 

غير أن الأهم من كل ذلك هو اعتماد الفيلم على الرسوم المتحركة لتقديم الأبقار ذاتها كشخصيات وأبطال للحدث. البقرات تروي أيضا حكايتها، لا لأن المخرج شوملي أراد فقط أن يخاطب الغرب بلغة يحبها وتثير تضامنه، إذ يعتقد المخرج -في إحدى مقابلاته- أن الغرب يمكن أن يتعاطف مع البقر أكثر مما يتعاطف مع الفلسطينيين، بل لأن أنسنة الأبقار فيها شيء من المرح والهزل، وهو أمر ضروري لحكاية الفيلم التي تريد أن تكشف عن جانب أسطوري في مقاومة الاحتلال، لكنه أسطوري هذه المرة من فرط بساطته، إن لم نقل من فرط المرح الذي يكتنفه.

 

يبرع الفيلم (جائزة أفضل فيلم وثائقي من العالم العربي في مهرجان أبو ظبي السينمائي للعام 2014. جائزة التانيت الذهبي لأفضل فيلم وثائقي مهرجان أيام قرطاج السينمائية 2014) في تصوير البقرات على مستوى الرسم، وعلى مستوى منطق “الشخصيات”، التي تبدأ كارهة للفلسطينيين، باعتبارها جاءت من كيبوتس إسرائيلي، لتنتهي للتعاطف مع قضيتهم.

 

البقرات هنا ليست معزولة عن محيطها. إنها تشعر تماماً بما حولها، وتتوجه أحياناً بالحديث إلى الفلسطينيين. لم لا، أليست هي أصل الحكاية هنا؟ إلى حد أنها تحمل كل الرواية الفلسطينية وكل أحلام الفلسطينيين، لذلك لم تكن غريبة عبارة جلال، أحد شخصيات الفيلم، حين قال “في اللحظة التي رأيت فيها الأبقار في المزرعة شعرت أننا بدأنا نحقّق حريتنا واستقلالنا”. وأن يقول طبيب “أردنا حريتنا، وأردنا أن نمتلك أبقاراً”، كأن امتلاك الأبقار يساوي تماماً امتلاك الحرية، وصولاً إلى ما يقوله صاحب المخبز نسيم هلال تعليقاً على حادثة نقل البقر تحت المطر، والخشية من سقوطها في الوحل: “ما كنا بدنا إياهن يقعوا، كان ممكن نموت في سبيل البقرات”.

 

ثم إن المخرج لم يتوقف عن استخدام البقرات معادلاً لحالة الفلسطينيين عبر سعيها الدائم للتحرر، من يصدق أن بقرة تقفز عن سياج بعلو مترين، حسب أحد الشهود، ويقدمها الفيلم هنا وكأنها تطير! بل إن الفيلم يختم حين يحار أهالي بيت ساحور في إخفاء البقرات وتصبح كلفة إخفائها عن أنظار الاحتلال أعلى من إنتاجها، فيجري أخذها إلى الذبح، في الطريق تدفع البقرات المتبقيات البقرة الصغيرة بينها للهروب. تقفز الصغيرة وتتمكن من الهرب للتحرر من الذبح، ونرى المخرج في آخر الفيلم يبحث في الجبال الجرداء والكهوف عن أثر لتلك البقرة، إلى أن يعثر بالفعل على صوت خوار. لم يعد الطائر والحصان فقط رمزي الحرية، البقرة أيضاً تسعى إلى الحرية، ويمكنها بالفعل أن تحطّم الأغلال.   

 

 تنتهي الحكاية مع ورود أخبار اتفاق أوسلو (١٩٩٣). في تلك اللحظة كانت إحدى البقرات تضع توأماً، يموت أحدهما أثناء الولادة، وتموت البقرة نفسها بعد اتفاق أوسلو، نقصد بعد الولادة. يصوّر الفيلم تلك الخيبة الكبيرة التي بلغتْها الانتفاضة الفلسطينية، ويقول جلال، المربي الأساسي للأبقار والأستاذ الجامعي، “كنا نحلم أن تحقق الانتفاضة الحرية والاستقلال”.

  

الرواية بلسان الأبقار تأتي لتؤكد المفارقة الساخرة، حيث أسطورة الجيش الذي لا يقهر عالقة في روث ثماني عشرة بقرة في بيت ساحور. سنضحك حين نشاهد الجيش يأتي بعرباته ومروحيتين وينادي عبر الميكروفونات “سلموا البقرات تسلموا”.

 

هذا جزء من حكايات أخرى مرحة يسردها الفيلم عن انتفاضة بيت ساحور، حيث كان الناس يواجهون منع التجول بإقامة حفلات الشواء والشرب على الشرفات، الأمر الذي قاد الاحتلال إلى الجنون، تماما كما حدث حين كان الجيش يستدعي الناس للمراجعة، ثم يتركهم هناك من دون كلمة، فصار المراجعون يقضون الوقت بالقراءة والكتابة واللهو والأكل تحت سمع وبصر الجنود.

 

المرح جزء من الفيلم، كما لو أنه هو القماشة التي حيك منها، سنجد على الدوام أشياء من قبيل الطائرات الورقية تتطاير حتى أثناء المقابلات الرصينة مع شهود الحكاية، بل أبطالها. هنا نشعر بأهمية أن المخرج يحكي حكاية أهله وبلدته، وبالتالي يمكنه التجرؤ عليهم ومداعبتهم برميهم بطائرة ورقية، يتجرأ على كسر رصانتهم، هو الطفل ورسام الكاريكاتير الذي لا يطيق مشهداً متجهماً.

 

يبدو أحياناً أن رسام الكاريكاتير دأبُه مواجهة الدكتاتورية والتجهم بالهزل، بالتهكم، كذلك قام برسم كاريكاتيري يصور رجالاً يدخنون النرجيلة على رصيف تحت سور السجن، تماماً تحت أنف الجيش، غير عابئين بسطوته، كذلك أيضاً عمد إلى تصوير زيارات أهالي البلدة للأبقار والتقاط صور تذكارية معها، كما لو أنها تماثيل إغريقية.

 

كان يمكن للفيلم (وهو من إنتاج كندي فرنسي فلسطيني، العام ٢٠١٤)  أن يمر بشكل تقليدي تماماً، أن يقتصر على تسجيل مقابلات، وربما يستعيد من الأرشيف صوراً وأشرطة فيديو، ولعله سيكون فيلماً تسجيلياً ناجحاً، لكن تلك الإضافة التي تتعلق بتجسيد الأبقار وإنطاقها بلسان البشر واستعادتها بمشاهد تمثيلية، كانت حاسمة في تحويل اتجاه الفيلم، وهذا منطقي ما دمنا نتحدث عن حكاية البقرات في الأساس. 

 

سنجد أنفسنا أمام دأب متجدد لاختراع شكل فني لقول الحكاية. التسجيلي يلجأ إلى الشكل الروائي حين يعمد إلى مشاهد تمثيلية (وهنا سجلت بلدة بيت ساحور بطولة جديدة حين تحولت إلى أستوديو كبير لتصوير حدث قديم يخصّها، كما لو أنها توثق يومياتها من جديد، اللافت أن الناس تحوّلوا إلى ممثلين بارعين)، ثم ينزع الروائي والتسجيلي إلى تجسيد الحدث بالرسوم المتحركة، كل ذلك على وقع موسيقى لـ”بينوا تشاريست” في منتهى الدقة والجمال والحيوية، ولن نجد فيها أي علاقة مع موسيقى من تراث البلد، وهو أمر لافت حقاً، ومعلّم. 

 قلّما يقع المرء في غرام شخصيات فيلم كما يحدث مع “المطلوبون الـ١٨”، بدءاً بتلك البقرة الصغيرة التي أسدلت غرّة من شعرها فوق جبينها، مروراً بجلال المدرس والمشرف على تربية الأبقار، إلى تلك السيدة التي تحدثت كيف كانت مع رفيقاتها يتوزعن الأدوار لشراء العلم وخياطته، والتي تتحدث تالياً عن تأثرها البالغ بمشهد بكاء البقرة وهي تضع مولوداً، وتذرف البقرة دموعا تشعر معها السيدة بأنها أمام امرأة تلد، إلى أم الشهيد أنطون شوملي وهي تحكي عن نضاله، وكيف وصلها خبر استشهاده. تحكي ببساطة، من غير دموع، لكن بجمال لا ينسى فعلاً. 

 

لقد نجح الفيلم في تقديم هؤلاء بشكل محبب، من دون أي ادعاء أو تمجيد مقصود، بل أحياناً جرى تقديم بطولاتهم الصغيرة إلى جوار عناصر فكهة، قد يعتبرها البعض مسيئة إلى جلال الرموز. يكفي حضور الأبقار ذاتها ليكسر رصانة المشهد الجليل.

 

إن جزءاً من جمال “المطلوبون الـ١٨” هذا الإحساس بأن الأفكار المبدعة يمكن أن توجد بقربنا تماماً، ولن تحتاج إلا إلى قليل من العناء لبلوغها. يصل هذا الإحساس رغم معرفتنا أن الفيلم هو ثمرة جهد خمس سنوات من العمل، وحصيلة جهد بلدة بأكملها من المبدعين.

 26/6/2015 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here