سوريا “لوكيشن”

38
 
 
لم يكتف إعلام النظام السوري، بتصوير فيديوهات المجازر الكيميائية التي ارتُكبت في غوطة دمشق الشرقية على أنها مفبركة، ومِن صُنع “العصابات المسلحة”، فلقد تمادى في تصديق كذبة اخترعها بنفسه، ليصل إلى مطالبة مؤسساته “ومهمتها إنتاج الفن” باستثمار “لوكيشن” (موقع التصوير) خلّفته الحرب، اقتداءً بما فعلته “عصابات مسلحة استطاعت إنتاج الكثير من الأعمال المفبركة، ومنها مسلسل الأسلحة الكيميائية جاء على أجزاء، مستغلة المكان الذي احتلته”!

تطالب صحيفة سورية خاصة صادرة حديثاً (في مقال حمل عنوان “دوما لوكيشن”) بألا تهمل “اللوكيشنات” وليدة الحرب بدلاً من “بناء استوديوهات وصرف تكاليف باهظة لخلق جو الحرب، أو «لوكيشن» يناسب موضوع العمل، بالاعتماد على الخدع البصرية”.

ولا تتوقف عند المطالبة بتحويل الدمار إلى “مكان وديكور بديل”، على غرار ما يحدث في المسرح الحديث، حيث العرض في الشارع وفي بيت ومحمصة وحديقة عامة، بحسب الصحيفة نفسها، فهي تقترح عدداً من السيناريوهات الجاهزة البديلة كذلك. حيث الأنفاق “حفرت بسواعد الرهائن والمخطوفين، الذين عاملتهم كعبيد أو رجال حُكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة”، و”أماكن تعذيب كان يصلب عليها السوريون ليتلقّوا وجبات التعذيب والحقد والكراهية على أجسادهم”.

وصولاً إلى “الأماكن التي حُوّلت لمرابع رقص وسهرات ماجنة ودعارة، كان يرغم عليها سكان تلك المناطق خوفاً من بطش تلك العصابات، وخير شاهد ملابس الرقص الخليعة التي خلفوها وراءهم”!

 

لا تعلم الصحيفة الرديفة لإعلام النظام أن فناني النظام قد سبقوا اقتراحها، واستثمروا “اللوكشين” السوري الكبير، وغالباً بدعم وتغطية من قوات النظام. نجدت أنزور سبق له أن صوّر في داريا، وجود سعيد صوّر فيلمه السينمائي “مطر حمص” على أنقاض مدينة حمص، كما حشرت صور المدن المدمرة في غير مسلسل تلفزيوني بعضها عرض في رمضان الأخير.

تتصادى دعوات إعلام النظام تلك مع نقاشات مماثلة، وإن بصوت خافت، على الجانب المعارض، فقد كتب فنان سوري على صفحته في فيسبوك عن “فنانة سورية معارضة اقترحت أمام عدد من الفنانين الإبقاء على بعض الأحياء المهدمة في الغوطة وحمص وحلب باعتبارها تشكيلات تحمل قيمة فنية وجمالية عالية”، وعلى ذمة الفنان/ الكاتب فإن عدداً من الفنانين وافقوا مواطنتهم، وراحوا يتحدثون عن صور الدمار في دريسدن الألمانية وهيروشيما اليابانية، مع إشارة إلى “فن الصدفة غير المقصود”، مستغرقين في البحث عمّن يكون الفنان الحقيقي (مصمم مشهد الخراب) في هذه الحالة، ذاك الذي التقط الصورة أم الذي نفذ التدمير، أم من أَمَرَ به…!

إنها دعوات لا تقيم أدنى وزن للبشر، لسكان تلك الأمكنة المدمرة والمنهوبة بفعل قصف النظام الوحشي. دعوات تحاول الاستثمار في المأساة المروعة، كما تضيف عليها تزويراً أفظع، كما يظهر عند أنصار النظام. 

 

صحيح أن هناك تجارب سابقة حاولت أن توظف الدمار في أعمال فنية، ولكن الهدف كان مختلفاً كلياً. لقد رسم بانكسي، فنان الغرافيتي البريطاني الشهير (المحاط بالغموض)، على أنقاض غزة بعد الحرب، كنوع من التضامن وإظهار مأساة فلسطينيي غزة للعالم، بل إن سكان المناطق المدمرة أنفسهم رسموا فوق بيوتهم تحدياً ورغبة بالحياة والخلاص من وحشية النظام.

أما تحويل الدمار لمنظر فلا ندري أي مشهد فني وأي جمال يمكن العثور عليه في قلب ذلك الكابوس. يذكّر الأمر بما فعله النظام السوري على مدى خمسين عاماً في تركه بعض الأمكنة المهدمة في مدينة القنيطرة على حالها، واقتياد الزوار الأجانب إليها باستمرار معتبراً إياها شاهداً على وحشية الجريمة الإسرائيلية. وقياساً على ذلك، فلن تكون دعوة إعلام النظام لترك ذلك الدمار على حاله إلا شاهداً على جريمتهم هم، فالجميع يعرف من بحوزته الطائرات والبراميل المتفجرة وصواريخ السكود.

لقد طرح على الدوام سؤال الأخلاق والفن، خصوصاً مع الفنون التي كانت لصيقة مع مشهد المأساة، مع التصوير الفوتوغرافي، الفن الأكثر قرباً من مآسي الحروب، ولطالما كان السؤال حاضراً حول تفكير  الفنان/المصور بلقطته هو وانشغاله عن سكّان الصور، حتى وإن شكّلت الصورة جسر عبور لملايين الضحايا والمعذبين، كي يصل صوتهم إلى العالم.

إنها أسئلة قد يلخصها عمل فني قُدّم في كفرنبل (في الشمال السوري) في الذكرى الثالثة للثورة السورية، حينما علّقت فنانة سورية معارضة اللحم النيء على الإسمنت المحروق بنيران القذائف، مع فساتين قماش أبيض على أنقاض منزل دمره القصف، “لتضع الناس الذين يعيشون يومياً مع الموت في شارع واحد أمام عملها التركيبي”. وعلى ما يقول خبر نشر في حينه، فإن “البيت المدمر كان يملكه رجل قتل بقصف طيران النظام، ولم يبق من جسده غير ساقه المبتورة بين الأنقاض”، هكذا علقت الفنانة عدداً من فساتين بيضاء مع أرجل خراف داخل البيت”.

 

ويتابع الخبر أن “اللحم النيء المعلّق استفزّ مقاتلاً صدف وجوده في سوق البلدة، فحاول إقناعها غاضباً بتوزيعه على فقراء القرية. وتهجمت جارة المنزل على أفراد فريق العمل محاولة طردهم خوفاً من انتقام الطيران من الحارة مجدداً”. هذا مع العلم أننا نتحدث عن كفرنبل التي أهدت تاريخ الثورة السورية أجمل غرافيتي ولافتات. أي أن السؤال لا يتعلق هنا بالفن، بل بالكيفية التي يتعامل بها مع المأساة السورية.

فنون النظام هي صوته وأجندته، ومن البديهي أن تسهم معه في التزوير وقلب الحقيقة والاستثمار التجاري، كما تعودنا منها احتقار الناس الذين تعرّضوا في الأساس لمشاريع إبادة، لكن ماذا عن فنون الجهة المقابلة؟ هل قدمت حقاً الأسئلة الفنية اللائقة بفظاعة المأساة؟

(المدن)

16/06/2018

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here